يسعى هذا البحث إلى تقديم مقاربة نقدية لمفهوم الإيقاع في التصور التراثي العربي؛ محاولةً لتواصل أكثر فاعلية مع تراثنا، وإدراكًا لقصدية المعجم العربي – سفر سردياتنا الأضخم كما يقال - عندما صمت عن تقديم دلالة عامة للفظ "الإيقاع"، وطلب استشفاف هذه الدلالة من خلال إدراك المحددات المعرفية الدالة في إيقاع اللحن والغناء، ففي لسان العرب، مادة (وقع):
" والإيقاع: من إيقاع اللحن والغناء، وهو أن يوقع الألحان ويبينها، وسمى الخليل– رحمه الله– كتابًا من كتبه فى هذا المعنى، كتاب الإيقاع ".
وهذه القراءة تنطلق من التفاعل المعرفي الموضوعي المحايد مع التراث باعتباره منجزًا قيد الاكتمال في كل لحظة، وليست ماضويته أكثر من طور من أطواره، ومرحلة من مراحله، ولحظة من عمر ذهابه في المستقبل استشرافًا لهذا الاكتمال- الذي لا يكتمل- المسكون دائمًا بقلق التساؤل والكشف وتجاوز المألوف والمعهود، وأمانًا ضد انسحاق الذات، وتغريب الهوية بالسقوط في أيديولوجيات الآخر الغربي الذي نجح في صنع تشوهات عميقة في الحياة الثقافية العربية حتى أن المرء لا يجد إلا الإدانة للثقافة العربية القديمة التي لم يكن مصطلح الإيقاع في فهمها– كما يرى أصحاب القطيعة المعرفية- إلا مصطلحًا موسيقيًا، أصابه الجمود والتشوه والغموض، ولم يكن قائمًا في فهم السلف قيامه في فهم المنظومة المعرفية الغربية.
إننا لا نغالي عندما نذهب إلى أن الثقافة الأوربية– قديمًا وحديثًا- لم تنتج رؤية ناضجة ثرية لمفهوم الإيقاع كما فعلت الثقافة العربية القديمة، وهو أمر أينما يوجهه المرء يجده قرينَ درسٍ عربيٍّ مدهش الثراء والخصوصية والتميز، كما يجده كاشفًا لحياة معرفية معاصرة أبى أصحابها أن يعوا خصوصية هويتهم، أو أن يبحثوا عن مشروعية حضورهم الضامن لبقائهم في الذاكرة الجمعية الإنسانية.