تعد النزعة الإنسانية واحدة من أبرز التوجهات الفكرية المستنيرة التي احتلت حيزًا واسعًا في المجالات النقدية والأدبية، وقد حظيت ببالغ الاهتمام من قِبل أدباء العرب وفلاسفتهم منذ العصور السالفة لاسيما في القرن الرابع الهجريّ؛ حيث تميز هذا العصر بانفتاحه الثقافيّ وتنوع روافده الحضارية وازدهاره بمختلف المعارف والعلوم؛ ومن هذا المنطلق تسعى هذه الدراسة إلى إعادة قراءة موروثنا الفكريّ برؤية معاصرة تتجه نحو التعمق الفكريّ والتأمل الواعي بهدف الربط بين المضمون الأدبيّ والسياق التاريخيّ للعصر؛ للوقوف على أصالة هذا التراث ونضجه الموضوعيّ، والكشف عن توجهاته الفكرية الخصبة، ومحاولة إثبات السبق الذي حققته العقلية العربية قبل قرون طويلة في تأسيس نزعة إنسانية تنبض بقيم إسلامية سامية، تختلف دوافعها بشكل جوهريّ عن إنسانية الفكر الغربيّ، إذ نشأت الأخيرة لأهداف براغماتية محضة، ساعية إلى تقويض السلطة البطريركية والحد من نفوذها، وبدهيّ أن تتمايز مظاهر النزعة الإنسانية في تراثنا العربيّ عن نظيرتها في الفكر الغربيّ الحديث وقد نشأت كحركة فكرية ناضجة مكتملة الأركان متمردة على موروثات العصور الوسطى، ويعود هذا الاختلاف إلى تباين العوامل الزمنية والحضارية والأيديولوجية بين الثقافتين، بيد أن ما لا يمكن إنكاره هو أن تلك المحاولات العربية الرائدة كانت بمثابة الإرهاصات الأولى التي تقاربت بصورة مدهشة مع الأفكار والقيم العامة التي تبنتها الاتجاهات الإنسانية والمدارس الغربية المعاصرة، ويعد (أبو حيان التوحيديّ) واحدًا من رواد جيله الذي اتسم بفكره المبدع السابق لعصره، فعالجت مؤلفاته أفكارًا عميقة وقضايا إنسانية متجددة، لذا فقد بات من الضروريّ أن تحظى النزعة الإنسانيّة عند هذا العالِم الفذّ بدارسة وافية متخصصة من منظور أدبيّ تحليليّ للوقوف على معالمها واستجلاء اتجاهاتها، ورصد مبادئها وأصولها، ومعالجة الإشكاليات الفكرية المتعلقة بها.