يتسع مفهوم الجسد ليدل على امتلاكِ الذاتِ الوعيَ والقدرة على التفاعل والتأثير والتأثر، وبهذا المعنى تواتر حضوره في شعرنا العربي؛ فمن شعرائنا مَن فُتن بالمرأة؛ فرسم لها صورة مثالية، تُقرِّب جسدها للخيال، ومنهم من افتخر بقوته الجسدية؛ ردعًا لخصومه، وربما لمآرب أخرى، وفي المقابل كان حديث بعضهم عن الجسد أمارة على الضعف ودليلًا على وَخْط الشيب له ونيل الزمان منه، وكذلك استخدم فريق من هؤلاء الشعراء الجسد علامة على النقص والمهانة في سياق الهجاء والشماتة، لا سيما عندما يُعَيِّر بعضهم بعضًا بهزيمة قومه وسبي نسائهم وانتهاكهن جسديًّا.

وفي الشعر الحديث سجل دال الجسد حضورًا لافتًا؛ ولعل مرد هذا الحضور الكثيف نضج تجارب الشعراء، وانغماسهم حتى الثمالة في واقعهم الاجتماعي والسياسي، ويعد الشاعر محمد محمد الشهاوي واحدًا من شعرائنا المعاصرين، الذين عنوا بفكرة توظيف الجسد، خاصة في ديوانه "إشراقات التوحد" الذي حفل بذكر الجسد، وكان من أهم تيمات إنتاج شعريته؛ إذ تخطى فيه هذا الجسد إفراخ الدلالات الحسية المباشرة، ولم يعد يُختزل في كونه مجرد جسد فيزيائي موجه للمتعة الخطابية والحسية، وإنما أصبح بمثابة علامة سيميائية، تفتقت عنها دلالات عرفانية ثقافية، وأبعاد سيكولوجية نفسية.

ووفقًا لهذا مكنت دراسة الجسد في ديوان "إشراقات التوحد" من الكشف عن طبيعة مرحلتين قد مر بهما الشهاوي، ويُرجَّح أن تكون إحداهما نتيجة للأخرى؛ المرحلة الأولى: مرحلة تبرم الشهاوي والإعلان عن معاناته، والمرحلة الثانية: مرحلة الانعتاق – على غرار الصوفيين - بروحه دون جسده من هذا الواقع؛ بغية رسم واقع خيالي جديد؛ ولإماطة اللثام عن طبيعة حضور الجسد في هاتين المرحلتين اشتملت هذه الدراسة على مبحثين؛ الأول: الجسد والوعي الواقعي، والثاني: الجسد والمتخيل الصوفي.