تتناول هذه الدراسة النتاج النقدي لأحد اعلام الفکر العربي في عصوره الزاهية، وهو عبدالله بن مسلم، المعروف بابن قتيبة، الذي حظي بإشادة کثير من الباحثين وذکروا عمق ثقافته وسعة معرفته في علوم العربية، کالسيوطي والقفطي وابن خلکان والسمعاني والبغدادي وأحمد أمين ومحمد مندور. وقد عاشَ ابن قتيبةَ في عصرٍ زاخرٍ اختلطت فيه الدراساتُ وشاع التأليف، وبرز علماء وأدباء منهم الجاحظ والمبرد وغيرهم کثير، ولکن التأليف في هذا العصر ساده بعض الاضطراب، فطبعت المؤلفات بطابع الاستطراد والانتقال من فکرة إلى أخرى دون علاقة واضحة بينهما، فقد کان هذا هو الطابع العام للتأليف في ذلک العصر. لکن ابن قتيبة لما يمتلکه من ثقافة واسعة وفکر نيّر، جاء بأسلوب مختلف في التأليف، من حيث اعتنائه بالتنسيق والتنظيم بين فقرات البحث وفصوله، فاهتم بالتسلسل المنطقي بين الأفکار في موضوعاته، ولعل هذا يرجع إلى إلمامه بالقضايا والأساليب الجدلية، کما يتضح من خلال دراسة منهج ابن قتيبة النقدي، تلک الروح التي غلبت على آرائه متأثراً باشتغاله مدة طويلة بالقضاء، فکان يميل إلى الاعتدال في جل آرائه ومذاهبه. وجلي أنه مستاء من فوضى التأليف التي کانت سائدة عند معاصريه، لذا نجد اهتمامه بوحدة الموضوع وتنظيم البحث وتقسيمه إلى أبواب وتسلسل الأفکار واستقصاء الفکرة، کما کان من الذين جعلوا في مقدمة کتاباتهم عرضاً يوضح الغرض منها أو دافع تأليفها وهذه خطوة عظيمة في ميدان التأليف تحسب لابن قتيبة.