غيرُ خافٍ ما للنقد الاجتماعيّ من أهمية قصوى ؛ حيث إنه يكشف العيوب الفاسدة السائدة في المجتمع، ويُوَجِّه سِهَامَهُ لِمَنْ انحرفوا عن جادة الصواب ؛ بغية إصلاح المجتمع، وتقويم اعوجاجه، وتهذيب الأخلاق .
ويرتكز موضوع البحث على دراسة النَّقْد الاجْتِمَاعِيّ السَّاخِر بَينَ الغَزَالِ وَالمَعَرِّيِّ، وذلك من خلال الوقوف على دَوَافِع النَّقْد الاجْتِمَاعَيِّ السَّاخِرِ بين الشاعرين سواء أكانت شَّخْصِيَّةً أم خَارِجِيَّةً .
ولهذه الدراسة أهميةٌ كبيرة ؛ حيث إنها تُعَدُّ موازنةً بين شعر النقد الاجتماعيّ عند الغزال الأندلسيّ والمَعَرِّي المَشْرِقِيّ، عن طريق الوقوف أمامَ شاعرينِ كبيرينِ، كلاهما وَجَّه شعره - في مرحلة مُعَيَّنَة مِنْ عُمْرِهِ- لتَتَبُّع وتَقَصِّي الآفات الاجتماعيَّة المنتشرة في مجتمعه .
ويهدف هذا البحث إلى إلقاء الضوء على أشعار النقد الاجتماعي عند الغزال والمعري، والتي تُعَدُّ من أجود أشعار النقد الاجتماعي في أدبنا العربي، وإثبات قوة الشعر الأندلسي وقدرته على مجاراة الشعر المشرقي بل التأثير فيه، وكذا توجيه عناية الباحثين إلى أهمية الشعر الأندلسي ؛ فهو بمثابة ديوان تتضح من خلاله الحياة الأدبية والسياسية والاجتماعية لأهل الأندلس .
اعتمدتْ هذه الدراسة على المنهج الاجتماعيّ، الذي يرى أنَّ الشِّعْرَ مِرْآةً تعكس واقع المجتمع، واستعانت بالمنهج النفسيّ الذي يُخْضِعُ النص للبحوث النفسيَّة، ويحاول الانتفاع من النظريات النفسيَّة في تفسير الظواهر، إلى جانب المنهج التاريخيّ لتَتَبُّع مسار الأحداث والشخصيات .
وقد جاء البحث في تمهيد وفصل وخاتمة على النحو الآتي :
فالتمهيد يتناول : مصطلح النَّقْد الاجْتِمَاعِيّ مبينا أهمية النقد الاجتماعي وعلاقة الأديب بأُمَّتِهِ ومجتمعه ؛ حيث توجد علاقة وطيدة بينهما ؛ فلا يمكن للأديب أن ينفل عن مجتمعه وقضاياه المصيرية بحال ؛ فهو لا ينتج أدبه لنفسه، وإنما لأمته .
ومصطلح السُّخْرِية التي لا تقتصر على النقد المُضْحِك فحسب، ولكنها تروم – أيضًا - التوجيه، والإصلاح، وذلك رَهْنٌ بنِيَّة الساخر وأسباب سخره .
والتَّبَادُل الثَّقَافِيّ بَينَ الأَنْدَلُسِ وَالمَشْرِق ؛ فالتواصُلَ بين الأندلس والمشرق لم ينقطع على الرغم من وجود حدود فاصلة بين البلدين ؛ فلم يكن فِكْر البلدينِ بمعزلٍ عن نظيره ؛ لذا كان التبادلُ الثقافيُّ فِي أَوجِ قِمَّتِهِ بينهما .
والتَّوَافُق الفِكْرِيُّ بَينَ الغَزَال والمَعَرِّيّ ؛ فكلاهما حاول معارضة القرآن الكريم وكلاهما مجَّد العقل، واحتكم إليه، وكلاهما كان حكيمًا .
أمَّا البحث فعنونته بـ ( دَوَافِع النَّقْدِ الاجْتِمَاعَيِّ السَّاخِرِ بَينَ الغَزَال وَالمَعَرِّيّ)، وانقسم إلى مبحثين : المبحث الأول : الدَّوَافِع الشَّخْصِيَّة، وفيه : عِِزَّة النَّفْس التي صاحبت الشاعرين حتى الوفاة، وجعلت كُلاً منهما يعتد بنفسه ولا يغفر لها زلةً أو تقصيرًا، وهذه العِزَّة دفعت كلا الشاعرين إلى القناعة والرضا بالقليل والاستغناء عمَّا في أيدي الناس .
والإحساس بالغُرْبَة ؛ فكلاهما أحسَّ بالغربة النفسية والاجتماعية، ورَفَضَ الانصياع وراء أهواء مجتمعه، وآثر مفارقته، ولم يجدا سبيلاً إلى ذلك إلا عن طريق العزلة .
والتعرُّض لأزمة ؛ فكلاهما تَعَرَّضَ لأزمةٍ كانت حدًّا فاصلاً بين شطرينِ من حياته إلا أنَّ طبيعة الأزمة قد اختلفت عندهما ؛ فأزمة الغزال هي إصابته بالعُنَّة، وأزمة المعري كانت إصابته بالعمى إضافة لموت أبيه وأمه، وهذه الأزمة التي تعرَّض لها الشاعران جعلت كُلاًّ منهما يشعر بقلق مصحوب بخيبة أملٍ فيمن حوله .
والتمرُّد على المجتمع ؛ فكلاهما تمرَّد على المجتمع ؛ نتيجةً لعدم القدرة على التكيُّف والانسجام معه، وهذا التمرُّد جعلهما يستخفانِ بالناس أجمعينَ، ويسيئانِ الظن بهم .
والمبحث الثاني : الدَّوَافِع الخَارِجِيَّة،، وفيه : أثر الحياة الاجتماعيَّة ؛ فكلاهما عانى من فقدان العدالة الاجتماعية بين الناس، وندَّد بصنيع الأغنياء الذين يبنون قبورهم بالرُّخَّام ويزينونها، ويُنْفِقُونَ عليها أموالاً ضخمة في حين أن القبر لا يُفرِّق بين غني وفقير ؛ فالكلُّ سواءٌ بداخله .
وكلاهما ندَّد بظاهرة الكُدْيَة، ولام الشحاذين، ودعاهم إلى العمل بدلاً من التَّسَوُّل، والإلحاح في سؤال الناس .
وكلاهما رفض ظاهرة زواج الفتاة الصغيرة من الشيخ الكبير، وقد تقاربت معانيهما - إلى حدٍّ كبير - في هذا الأمر .
وأثر الحياة السياسيَّة ؛ فكلاهما نَقَدَ السياسة والإدارة ورجالهما الذين اتسموا بالتعسُّف في إدارة شئون البلاد، وهضموا الحقوق، وانشغلوا بمصالحهم عن مصالح العامة .
وانتهى البحث بخاتمة اشتملت على أبرز النتائج التي خرجتُ بها، ثم ذيَّلتُ هذه الدراسة بالحواشي .