يتغيّا هذا البحث مقاربة إسهامات النظريّة المعرفيّة التي تبلورت في منتصف القرن الماضي بفعل تضافر مجموعة من التخصّصات العلميّة، حيث عملت على وضع مجموعة من الإواليات النظريّة والإجرائيّة في أفق مقاربة اللّغات الطبيعيّة، وما يتّصل بها من عمليّات إبداعيّة ومعرفيّة، في تطوير الدرس البلاغيّ عموما، والعربيّ بشكل خاصّ من خلال الوقوف على سيرورات انبناء المعنى والدلالة في الذهن، ما أفضى إلى تجاوز التصوّر القديم الذي يحصرها في الزخرفة اللّفظيّة، إلى تصوّر معرفيّ يربطها بعمليّات ذهنيّة داخليّة متفاعلة مع زمرة من المعطيات البيئيّة والثقافيّة؛ فالاستعارة جزء أساس من تفكيرنا، فنحن نفكّر بطريقة استعاريّة. وقد عرفت هذه النظريّة تطوّرات تجلّت في ظهور زمرة من الأوَّليات المعرفيّة التي مهّدت لاكتمالها، كنظريّة الاستعارة التصوّريّة، ونظريّة الأفضية الذهنيّة، التي عملت على استجلاء العلاقة بين اللّغة بالفكر من جهة، وعلاقة الفكر بالواقع من جهة أخرى، وما يتّصل بذلك من تفاعل مع المحيط كما يتجلّى في نظريّة الجَسدَنَة التي أعادت الاعتبار لتأثيرات الجسد في تشكّل التصوّرات والرؤى؛ فنحن نستقي تصوّراتنا من المحيط الذي يكتنفنا في إطار عمليّة تفاعليّة معرفيّة، ويتبدّى ذلك بشكل بارز في بِنية الاستعارة التي حظيت بمكانة سنيّة في الفكر اللّسانيّ المعاصر؛ لأنّه انتهى الأمر بالمنظرين للّغة والإدراك إلى الإقرار بأنّه لا يتمّ تمثّل اللّغة والقدرات اللّسانيّة دون إدراك واضح للاستعارة. ولمقاربة هذه الإشكاليّة سأنطلق من فرضيّات النظريّة المعرفيّة، ولاسيّما الفَرْضيّة الرئيسة والمتمثّلة في أنّ كلّ نظام معرفيّ يكون فاعلا في محيطه عن طريق بلورته تمثيلات ذهنيّة عن هذا المحيط في انسجام مع بِنية الثقافات... من خلال اعتماد منهج تحليليّ يرصد تجلّيات إفادة المنجز البلاغيّ العربيّ المعاصر من هاتين الكفايتين في تطوير البلاغة العربيّة المعاصرة.