صارت مصر في القرن العشرين قبلة المبدعين العرب في كل مجال لا سيما في مجال الآداب والفنون، فعاش في رحابها كثير من الأدباء الكبار من كل الأقطار العربية، وانفعلوا بمجريات الأحداث السياسية فيها، سواء في فترة الاحتلال الغشوم، أو فترة الملكية المسيطرة أو فترة الجمهورية الحالمة، ومن هؤلاء الأدباء الذين ترى إبداعهم الأدبي صدى لأحداث مصرنا وانعكاسًا لها، الأديب التونسي المدهش بيرم التونسي (1893-1961م)؛ فهو من الذين شاركوا بحياتهم وإبداعهم في بلورة الأوضاع المصرية وصياغتها باقتدار وإحكام؛ وذلك لحدة انخراطه فيها وابتلائه المتوالي منها، وقد تنوع إبداعه الأدبي بين زجل وشعر وقصة ومسرح ومقال ومقامة، وتعدُّ مقامات بيرم التونسي السياسية المصرية وردة في الحديقة المقامية الفاتنة، التي لها جذور ممتدة في تراثنا العربي، ولم تأخذ حقها بعدُ من الدراسة الأدبية والتحليل النقدي. والمقامة نوع أدبي ذو نزعة تعليمية، وقد حوى ثروة لغوية منضوية على ظواهر بلاغية في نسيج فني يظهر الفكر العربي، ويغلب عليها الجانب التوجيهي الإرشادي، لكن مقامات بيرم التونسي السياسية المصرية خرجت من إطارها التعليمي النقدي الجاف المسيطر على المقامات، وارتدت ثوبًا قشيبًا، به ظلال زاهية، فنية واجتماعية، وتوجه نقدي خفي، وكل ذلك مُعضَّد بوجهة نظره الشخصية؛ مما ربطها بشِيات مع المقامات القديمة لتوافق أهدافهما؛ وصبغها بصبغة عصرية لتناولها قضايا الساعة المسيطرة على الساحة المصرية، فمقامات بيرم التونسي تعد ثورة جامحة ضد الأدواء الاجتماعية من نحو الفوضى والاستغلال والكذب، كذلك ضد الخصال الإنسانية السيئة من إيذاء الآخر والطمع فيما يملك، وحب الأثرة، والحقد والحسد، فهي ثورة صريحة لهدم خصال المجتمع القبيحة المتجمدة وإرساء خصال حسنة مرنة نامية مطورة، والمجتمع الذي تعبر عنه مقامات بيرم مثقل بالمتناقضات، ففيه صورة قلمية للانتهازى والوصولى والمنافق والورع والمغفل والساذج والنصاب، ولكن اهتمام بيرم الأكبر انصب على النماذج الرديئة إيماناً منه بأن للأدب دوراً مهماً في فضح الفساد الاجتماعي ووظيفة مهمة في إثارة اهتمام الناس بقضايا مجتمعهم. ومن ثم أردت أن أخص هذه المقامات بهذا البحث، وجعلته بعنوان: [النسيج السردي في المقامات السياسية المصرية لبيرم التونسي (1893-1965م): دراسة تحليلية نقدية]