إنَّ نقدَ الشعر يستلزم من الناقد أن يَلِجَ في أعماق نفس الشاعر؛ ليعرف ما تحويه نفسه من آلام أنتجت تلك الكلمات، وكيف رُسمت تلك اللوحات الشعرية البراقة، فعلى الرغم من أن أمل دنقل شاعرٌ لم يَبدُ رومانسيًّا في معظم أعماله؛ إلا أنَّ طابع الرومانسيَّة لم يترك له مجالاً للفرار، فقد ظهر في العديد من دواوينه الأولى وقصائده الوطنيَّة والاجتماعيَّة وحتى قصائد النقد السياسيّ، ورُبما يعود غلبة الاتجاه الرومانسيّ على بعض قصائد أمل دنقل إلى أسبابٍ نفسيَّةٍ وأخرى اجتماعيَّةٍ، إن نشأة أمل دنقل بين أحضان الطبيعة كوَّنت شخصيته الرومانسية منذ البداية، وجعلت منه شاعرًا مختلفًا يشعر بالأشياء من حوله حيةً كانت أم جمادًا. ويُمكننا ملاحظةَ غلبةِ الطَّابعِ الرومانسيِّ في أشعارِ أمل دنقل؛ خاصةً في ديوانه الأخير (أوراق الغرفة8)، من خلال أسلوبه وموسيقاه وقافيته وكلماته، واستخدامه لمظاهرِ الطبيعةِ، بل إن عناوين قصائد هذا الديوان جاءت إيماءات دالة على هذا الاتجاه، فقد أفرد قصائدَ فقط عن الطبيعة من زهورٍ وخيولٍ وطيورٍ، وكأن الطبيعة أصبحت كلمة السر المميزة والمعبرة عن الماضي المفقود الذي لا أمل لرجعته، لقد رأى أمل دنقل العالمَ من حوله بنظرةٍ رومانسيَّةٍ ناضجةٍ مختلفة عن ذي قبل، فهو يُضفِي على الأجواء من حوله بخياله الرومانسي طابعًا جديدًا جامعًا بين الحزن والرومانسية، وظهر ذلك في نظرته للأمور والأشياء من حوله، فقد اختلفتْ نظرتُهُ للألوانِ والأشياءِ حتى ذاك السرير الذي حمله في مرضه، وجحد سلطان العقل وتوَّج مكانه العاطفة والشعور، فلم يكن غريبًا أن نلحظ الطابع الرومانسي منذ البداية في قصائد مثل (كلمات سبارتكوس الأخيرة)، (مذكرات المتنبي)، (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) ومعظم القصائد الرمزية، كما ظهر الطابع الرومانسي الهاديء أيضًا عند أمل في قصائد مثل: (الطيور) و(الخيول) و(زهور)؛ حيث اختلطت الرومانسية بالطبيعة في ماكينة حزن أمل دنقل فأنتجت قصائد رومانسية ذات طابعٍ حزينٍ مُستوحاة من سحر الطبيعة التي كانت منبع شعرية أمل دنقل. فقد أطل علينا في هذا الديوان بوجهٍ لم نألفه منه، فتَبَدَّى بوجهه الحقيقي الذي أخفاه عن الجميع، فالشعر بالنسبة لأمل دنقل مُتنفسه الذي يُفرِّغ فيه طاقاته من حزن وفرح، ولما كانت الرومانسية مذهبًا يظهر بوضوح لدى أصحاب الكلمات الصادقة فقط لا شعراء المحافل والمناسبات، فقد سيطر الحزن الرومانسي وطابع الكآبة بشكل كبير على معظم أعمال أمل في هذا الديوان، لكل هذا وغيره جاء ديوان (أوراق الغرفة 8) -الذي جمع شتات حب أمل دنقل للوطن ومأساته مع المرض على حد سواء- في معظمه بيانًا لنزعة من الدواوين التي تتصف بسماتٍ مائزةٍ من سماتِ الرومانسية.