بادئ ذي بدء، بمعني الكلمة، أي منذ بدء إسهامي الفلسفي من أربعين عاما خلت، اضطلعت بتقديم كارل بوبر Karl R. Popper (1902-1994) فيلسوف المنهج العلمي الأول للمكتبة العربية. قدمت أول دراسة أكاديمية عربية تحيط بفلسفته للعلم. منذ ذلك الزمان البعيد وحتى هذه اللحظة، أشعردائما بإلزام والتزام بتقديم الطرح البوبري في المسألة المعنية. والمسألة التي تعنينا الآن هي الاستشارة الفلسفية، سواء الاستشارة الفردية التى تلامس العلاج النفسي أو الاستشارة الجماعية التي تلامس الإصلاح السياسي والاجتماعي. فما شأنها عندما تكون بوبرية؟ ما وضعها في رحاب هذه الفلسفة النقدية العقلانية، أو بتعبير مباشر: ماذا عن الاستشارة الفلسفية حينما تأتينا من أعطاف فلسفة كارل بوبر. وهذا عنوان أول كتاب لي " فلسفة كارل بوبر: منهج العلم.. منطق العلم - 1989". لا شك أن منهجية العلم ومنطقه يجعلان هذه الاستشارة الفلسفية من نوعية مُتميِزة وذات خصائص مُمَيَّزة، تمُيزًا بما هو منطقيٌ منهجيٌ مقنن. وبمثل هذا التميز، نجد الطريق ممهدًا وواعدًا أمام الاستشارة الفلسفية عندما تكون بوبرية. ذلك إن الفلسفة البوبريّة تُعرف في الخطاب الفلسفي بعنوانٍ أو مصطلحٍ آخر مرادف، ألا هو التكذيبية  Falsificationism ، من حيث أن آية فلسفة بوبر ورسالتها إنما يتمثل في كشفه العبقري لكون التجريبية ليست البتة استقراء للواقع واغترافًا من المعطيات الحسية، بل إن التجريبية في كلمة واحدة هي الاختبارية، هي الاختبار المنهجي المسؤول أمام الواقع والوقائع. كل تجربة معملية هي اختبارٌ لفرضٍ علمى، اختبار حقيقي وليس صوريا، أي يمكن ألا يجتازه الفرض حين تشهد الوقائع بكذبه. إمكانية التكذيب هذه، أي القابلية للتكذيب هي الخاصة المنطقية المميزة للنظرية العلمية، هي التجريبية ذاتها.