لم يترک أي مفکر اجتماعي وعالم اجتماع أثراً کبيراً في فکر ومسار الأنثروبولوجيا، مثلما ترک إميل دورکايم؛ فمساحة التقاطعات الکبرى بين الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، من جهة، وعلم الاجتماع، من جهة أخرى، إنما يعود الفضل فيها إلى إسهامات دورکايم، التي کانت ولا تزال تشکل المعين اليومي للباحثين في هذه الحقول الخصبة من العلوم الاجتماعية. وعلى الرغم من کثرة الأبحاث والدراسات التي تنشر حول هذا المفکر الاجتماعي العظيم، إلا أن نصيب إسهاماته الأنثروبولوجية منها بشکل محدد، لا يزال قليلاً نسبياً، إن لم يکن نادراً، وخصوصاً ما ينشر منها بالعربية. کما يعاني الکثير من الدراسات، التي سعت لتسليط الضوء على أفکار ونظريات هذا المفکر الاجتماعي إما غياباً کلياً أو محدداً للسياقات التاريخية والاجتماعية المصاحبة لها، أي کما لو کانت تلک الأفکار والنظريات منزوعة من الظروف التاريخية لإنتاجها. لذا تطمح هذه الدراسة إلى تقديم إيجاز مهم في کلا الجانبين، حيث يرى کاتبها أنه على الرغم من الأهمية الخاصة لإسهامات دورکايم الأنثروبولوجية، فستظل الإحاطة بها قاصرة ما لم توضع في السياق السيري لإميل دورکايم؛ أي في السياقات التاريخية والاجتماعية لحياة هذا المفکر، وأثرها سلباً أو إيجاباً في مسار عطائه الفکري وإنتاجه لتلک الأفکار والنظريات السوسيولوجية عامة، والأنثروبولوجية خاصة.