إنه من نافلة القول، أن هذه الدراسة محاولة لتسليط بعض الضوء على موضوع العلم والتعليم في مصر الفرعونية حيث يتوقف عرض الموضوع على تفسير عدد من المسائل سوف يتم طرحها، ومن أهم الأسئلة المطروحة: ماهية العلم والهدف منه وأنواع العلوم وطبيعتها. هذا بالإضافة إلى إبراز جوانب التعليم المختلفة والمتمثلة في: أهمية التعليم، دوافعه، کيفية ممارسته ومکانة العلم والمتعلمين، وأخيراً الحديث عن مجالاته وإبرازها دون التفصيلِ في إنجازات المصريين القدماء في تلک المجالات من طب وفلک ورياضيات وفنون.
تعتبر مصر الفرعونية حاضرة عظيمة، جذبت إليها أنظار العالم قديماً وحديثاً، لما لها من سبق وتنوع وتفرد وابهار ، حاضرة قامت على أسس علمية، وخبرة هندسية، ومما لا شک فيه أن تلک الحضارة التى ُسست فى مصر مثلت البداية فهى لم ترث علماً ولا فکراً، بل ورثت العالم مبادئ وأسس العلوم والفن والأدب([1]) ، ترک المصريون القدماء سجلاً رائعاً في مجال الحضارة الإنسانية بشتى أشکالها، ولقد فطن المصرى فى زمنه إلى حتمية بناء جيل متعلم يعَّتد به، ويعتمد عليه في تشييد أرقى الحضارات الإنسانية في العالم القديم ومن هذا المنطلق سارع إلى الاهتمام بتزويده بسلاح العلم والتعليم.
قدس المصرى القديم أصحاب العلم والفکر والمعرفة والثقافة عن إيمان ويقين، ورفعوا من شأنهم فى حياتهم الدنيوية والأخروية إلى حد إلباسهم لباس القداسة وإنزالهم منزلة الآلهة. يعد "إيمحوتب" وزير الملک "زوسر" - الأسرة الثالثة - خير مثال على ذلک حيث قدسه المصريون ورفعوه إلى مصاف الآلهة لما إمتلکه من معارف فى کثير من المجالات مثل الهندسة والطب إلى درجة مقارنته بـ"اسکلبيوس" معبود الطب لدى الاغريق. وهذا الأمر ينسحب بدوره على "إيمحتب بن حابو" الذى ألهه المصريون فى الدولة الحديثة، وکانوا يحجون إلى مزار له فى الدير البحرى بجبانة طيبة، وإلى جانب هؤلاء هناک الکثير من أصحاب العلم والمعرفة أمثال: "بتاح حتب" و"ددف حور" و"کاجمنى"([2]).
يؤيد ذلک الطرح أن التعليم فى مصر القديمة لم يکن لونا من ألوان الترف بل کان ضرورة من ضرورات الحياة، ولم يکن الهدف منه قاصرا على الجانب المادى والروحى فقط بل تجاوز ذلک إلى مانسميه اليوم بفلسفة التربية والتعليم وکان وازعها الأول تلک القداسة التى أحاطت بالعلم والمعرفة وأصاحبهما([3]).
لقد فرضت ظروف الحياة فى مصر القديمة طبيعة العلوم التى کان يتوجب على المصريين معرفتها واقتصرت فى البداية على تلک التى تفى بالمتطلبات الحياتية اليومية من فلک وحساب وهندسة (معمارية) وطب وتشريح وتحنيط ورسم ونحت وتصوير وممارسة الکثير من الصناعات الکيميائية؛ الأمر الذى أدى إلى تنشئة أجيال استطاعت أن تبنى مجمعا صالحاً([4]). وشاهد ذلک ماذکره "هيرودوت" فى کتابه الثانى عن مصر بأن" ... المصريين فى العلم، يتفوقون کثيراً على کل الشعوب التى خبرتُها.
([1]) راجع: أدولف إرمان، هرمان رانکه، مصر والحياة المصرية فى العصور القديمة، (القاهرة)، ص 353 ومابعدها.
([2]) أحمد بدوى، محمد جمال الدين مختار: تاريخ التربية والتعليم فى مصر، جـ 1، (العصر الفرعونى)، الهيئة المصرية للکتاب، القاهرة، 1974م، ص 236 ومابعدها. وللمزيد من التفاصيل عن هؤلاء الکُتاب العلماء راجع:
J. Capart, Les Maîtres de la Littérature Égyptienne (Académie royale de Belgique Bulletin, Classe des Lettres, Bruxelles, 1935, t.21, P. 289 f.
([3]) أحمد بدوى، محمد جمال الدين مختار، المرجع السابق، ص 238، 239.
([4]) أحمد بدوى، محمد جمال الدين مختار، المرجع السابق، ص240، 241 ؛ ولمزيد من التفاصيل عن هذا الموضوع راجع: أحمد بدوى: فى موکب الشمس، الجزء الأول، الطبعة الأولى، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1950 م، ص 69 ومابعدها، 83، 190 ومابعدها.