أبدت روسيا اهتماما واضحا ببلاد الشام منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وحرصت على دعم وجودها في هذه المناطق من خلال إظهار اهتمامها بالأرثوذکس وتحسين أوضاعهم، ورعاية کنائسهم، ولاسيما وأن سياسة الکنيسة الروسية خلال القرن التاسع عشر شکلت جزءا من الدبلوماسية العامة لسان بطرسبرج التي هدفت إلى تعزيز المصالح السياسية الروسية في المشرق العربي؛ ولهذا أرسلت منذ عام 1838م بعض أعضاء المجمع الروسي المقدس إلى بلاد الشام فقدموا توصياتهم بضرورة حماية روسيا للأماکن المقدسة الأرثوذکسية في فلسطين، وإرسال بعثة دينية إلى بلاد الشام للوقوف على أحوال الأرثوذکس فيها، فکانت بعثات بارفيري أوسبنيسکي استجابة لتلک التوصيات. اختارت الخارجية الروسية والمجمع الروسي المقدس بارفيري أوسبنيسکي في نوفمبر 1842م للسفر إلى بلاد الشام لثقافته الواسعة، واهتمامه بشئون الشرق الأدنى والمسيحيين الأرثوذکس فيه، وقد أخبرته الخارجية الروسية بسرية مهمته، وحددت له بشکل دقيق ومفصل المهام المکلف بأدائها، وخلال فترة بعثته الأولى (1843-1844م) حرص بارفيري على زيارة المدن والقرى الشامية المختلفة، ومقابلة سکانها ورجال الدين فيها، وتفقد أحوال الکنائس وأديرة الصحراء؛ فقدم للحکومة الروسية في تقاريره معلومات مفصلة نابعة عن معايشة حقيقية للوضع في بلاد الشام، وهو الأمر الذي قدرته الخارجية الروسية فأرسلته للمرة الثانية إلى بلاد الشام عام 1847م واستمر فيها حتى عام 1854م وخلال هذه الفترة حرص بارفيري على تقديم يد العون والمساعدة للمسيحيين الأرثوذکس ولا سيما العرب، والوقوف في وجه التبشير البروتستانتي والکاثوليکي، والاهتمام بالنواحي التعليمية، ولکن بسبب نشوب حرب القرم (1853-1856م) عاد بارفيري إلى روسيا، وقد شکلت آرائه وملاحظاته عن الوضع في بلاد الشام أساسا رکيزا عند تخطيط الخارجية الروسية لإرسال بعثة دينية علنية تعيد النفوذ الروسي المفقود داخل الدولة العثمانية بعد هزيمة القرم، وترسي دعائم الوجود الروسي في بلاد الشام خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر.