تفجر الصراع منذ فجر التاريخ بين السلطتين السياسية والدينية على مجال النفوذ والهيمنة، ولم ينقطع ذلک الصراع في التاريخ البشري، وظلت تداعياته بين شد وجذب ما بين مهادنة وتأجج. تارة تقوي السلطة الدينية فتخضع السلطة السياسية لتوجهاتها، وتصير السلطة السياسية حبالها موصولة بيد السلطة الدينية توجهها کما تشاء. وتارة تتوغل السلطة السياسية لتجعل من السلطة الدينية خادمًا مطوعًا لرغباتها. بينما في حالة أخري يصل الصراع إلى درجة من المجابهة التي تتطلب أن يزيح طرف منهما الآخر مهما کانت التضحيات أو الخسائر، ليستقر الأمر لأحد الطرفين دون مناوئ. وقد حفل التاريخ البشري على امتداده شرقًا وغربًا بتلک الأطياف من الصراع تزيد حدته أو تقل أو تتعادل ولکل من الطرفين سلاحه الخاص شريطة أن يحسن استغلاله.
وقد تستغل السلطة السياسية الخلافات الفکرية بين رجال الدين بعضهم البعض لتطبق مبدأ فرق تسد للوصول إلى بغيتها بينما لا يتوافر نفس السلاح بيد السلطة الدينية نظرًا لما يخالطها من مبادئ الدين والأخلاق، إضافة لاقتناص بعض المتوثبين للسلطة الدينية لشقة الخلاف للوصول إلى أعلى المناصب العلىا ولو على جثث أقرانهم. ونموذجًا لما أسلفنا يبرز الأسقف يوحنا ذهبي الفم وما جري بينه وبين السلطة السياسية آنذاک المتمثلة في الإمبراطورة يودوکسيا Eudoxia (395 – 404م) وزوجها الإمبراطور أرکاديوس Arcadius (395 – 408م)، وکيف استغل خصوم يوحنا الدينيين الصراع من أجل إقصائه.
يعد يوحنا سيکوندوس Secundus والملقب بـ "ذهبي االفم" من أبرز رجال الدين بالقسطنطينية الذين خلفوا إرثًا دينيًا کان ذا طابع أدبي راقٍ، وصل تأثيره العميق على کل من الکنيسة الشرقية والغربية على حد سواء([1]). إضافة لما يملکه من کاريزما شخصية جمعت بين العبقرية والتقوي، ودوّتَ شهرته بسبب أسلوبه المتميز بالروحانية العإلىة في تفسيرالکتاب المقدس، إضافة إلى براعته في مجال الوعظ الديني مما أسهم في خلق مکانة عظيمة ومحبوبة له في نفوس مريديه وأتباعه.
([1]) يوحنا ذهبي الفم، عظات عن القديس بولس، ترجمة القمص مرقوريوس والأنبا بيشوي، مؤسسة القديس باسيليوس، ط.2، يوليو 2008م، ص4؛ John Chrysostom, Homilies and Letters. Ed. Ph. Schaff, The Nicene and post. Nicene Father, 1st ser. Vol.9, Edinburgh, 1898, p.18; St. Jerome, The Principal works of St. Jerome. Ed. Ph. Schaff, The Nicene and post. Nicene Father, Vol.2-6, New York, 1892, p.4.