حقيقية الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر
من آفات الفکر والممارسة في واقعنا المعاصر اختزال المقاصد الکبرى في "الهوامش" والجزئيات والتنکر لفقه الأولويات.
وعلى سبيل المثال، فلقد امتاز الإسلام بالجمع بين الفرائض والتکاليف الجمعية والاجتماعية -التي سماها الفقهاء فروض الکفاية- والتي يتوجه التکليف فيها إلى الأمة جمعاء، وبين الفرائض العينية، التي يتوجه التکليف فيها إلى الفرد وحده، مع جعل الفرائض الجماعية أعلى مرتبةً وأشد توکيدًا عند الله.. لکن لأن الکثير من الفقهاء قد مثلوا لفروض الکفاية -الاجتماعية والجماعية- بصلاة الجنازة، التي إذا أقامها البعض سقطت عن الباقين، ظن کثيرون أن هذه التکاليف الاجتماعية أقل شأنًا في مراتب التکاليف، بينما العکس هو الصحيح، ذلک أن التخلف عن أداء الفرائض العينية -مثل الصلاة والصيام- إنما يقع إثمه على الفرد المکلف وحده، بينما التخلف عن أداء الفرائض الاجتماعية -مثل التکافل الاجتماعي، والجهاد، والاجتهاد، وتحصيل عناصر القوة والمنعة- إنما يقع إثمه على الأمة جمعاء، وتلحق عاقبته السيئة بالأمة کلها.. کما أن أغلب الفرائض العينية هي حقوق لله وحده، الحساب عليها لله يوم الدين، بينما التخلف عن الفرائض الاجتماعية فيه ضياع لحقوق الله وحقوق العباد جميعًا، تلحق عاقبته السيئة بالأمة کلها، في دنياها، کما أنها ستحاسب جميعها على ذلک يوم الدين.
وفيما يتعلق بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر، رأينا من يختزلها -في واقعنا المعاصر- عند الهوامش والجزئيات -مثل إطالة اللحية، وتقصير الثياب، والتصوير، وشرب الدخان، وأمثالها- تارکين عظائم المنکرات -من مثل الصمت عن طغيان نظم الجور والفساد في بلاد الإسلام، والإهدار الفظ لحقوق الإنسان، ونهب ثروات الأمة، وتدنيس أرض الإسلام بالقواعد العسکرية الأجنبية، وفرض التبعية على الحکام والمحکومين لحساب مراکز الهيمنة والاستکبار الغربية، ومن مثل الصمت على اغتصاب المقدسات الإسلامية وتدنيسها، وخذلان المستضعفين من المسلمين ... إلخ ... إلخ، الأمر الذي يستدعي إنعاش الذاکرة الإسلامية بحقيقة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر، التي ورد الحديث القرآني عنها في الکثير من الآيات، من مثل قوله تعالى: {وَلۡتَکُن مِّنکُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنکَرِۚ وَأُوْلَٰٓئِکَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} [آل عمران: 104].
لقد حدد علماؤنا معنى "المعروف" ومعنى "المنکر" فقالوا: "إن المعروف هو ما قبله العقل، وأقره الشرع، ووافقه کرم الطبع".. أي أنه الأمر الذي اشترک في تحسينه العقل والنقل والفطرة جميعًا، فأصبح معروفًا ومتعارفًا عليه.. أما المنکر، فهو نقيض المعروف، أي الأمر القبيح عقليًّا، والذي لا يرضاه شرع الله، سواء أکان قولا أو فعلا.
ولقد جعل علماؤنا فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر "أم الفرائض، الجامعة لکل فرائض العمل العام"، من الدعوة إلى الإسلام وحتى إماطة الأذى عن الطريق، شاملة الولايات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والتعليمية والأخلاقية، وولايات تهذيب النفوس والملکات والطاقات بالآداب والفنون، وولايات الجهاد التي تجعل عزة المؤمن من عزة الله وعزة رسوله -عليه الصلاة والسلام- {وَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ} [المنافقون: 8] أي کل الولايات العامة التي تشمل صلاح الأسرة، والمؤسسة، والمجتمع، والدولة، والعلاقات الخارجية مع العالم.
ولقد جعل الإسلام في الذروة من هذه الفرائض الاجتماعية فريضة التصدي لولاة الجور ورؤوس الفرعونية السياسية ورموز القارونية المالية، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((أفضل الجهاد کلمة حق أمام سلطان جائر)) [رواه الترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه والإمام أحمد].. وقال: ((سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ثم رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله)).. وقال: ((لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنکر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه "تجبرونه" على الحق أطرا، أو ليضربن الله قلوب بعضکم ببعض، ثم تدعون فلا يستجاب لکم)) [رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه والإمام أحمد].. وقال: ((إذا رأيتم الظالم فلم تأخذوا على يديه يوشک الله أن يعمکم بعذاب من عنده)) [رواه الترمذي].
کما جعل الإسلام القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر صفة من صفات المؤمنين، وشرطًا لکونهم خير أمة أخرجت للناس: {کُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنکَرِ} [آل عمران: 110] وجعلها فريضة على الأمة، النساء منها والرجال على حد سواء: {وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنکَرِ} [التوبة: 71].
کذلک جعل الإسلام القيام بهذه الفريضة الجامعة المعيار الذي يميز المؤمنين عن الشيطان: {وَمَن يَتَّبِعۡ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَإِنَّهُۥ يَأۡمُرُ بِٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنکَرِۚ} [النور: 21] وعن المنافقين والمنافقات الذين {يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمُنکَرِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمَعۡرُوفِ} [التوبة: 67] وعن اليهود الذين {کَانُواْ لَا يَتَنَاهَوۡنَ عَن مُّنکَرٖ فَعَلُوهُ} [المائدة: 79].
ولقد وقفت وراء هذه الفريضة الجماعية والاجتماعية فلسفة الإسلام التي جعلت الإسلام دين الجماعة، الذي لا يکفي فيه صلاح الفرد عن صلاح المجموع، بل إن صلاح الفرد فيه هو لبنة في صلاح المجموع، يستحيل قيامه وتحققه دون الصلاح الاجتماعي العام.. وبعبارة الإمام الماوردي [364 – 450 هـ ،974 – 1058م]: "فإن صلاح الدنيا يعتبر من وجهين: أولهما: ما ينتظم به أمور جملتها. والثاني: ما يصلح به حال کل واحد من أهلها. فهما شيئان لا صلاح لأحدهما إلا بصاحبه؛ لأن من صلحت حاله، مع فساد الدنيا، واختلال أمورها، لن يعدم أن يتعدى إليه فسادها، ويقدح فيه اختلالها؛ لأنه منها يستمد ولها يستعد، ومن فسدت حاله، مع صلاح الدنيا، وانتظام أمورها، لم يجد لصلاحها لذة ولا لاستقامتها أثرًا؛ لأن الإنسان دنيا نفسه، فليس يرى الصلاح إلا إذا صلحت له، ولا يجد الفساد إلا إذا فسدت عليه؛ لأن نفسه أخص، وحاله أمسُّ، فصار نظره إلى ما يخصه مصروفًا، وفکره على ما يمسه موقوفًا([1])".
وفي هذه الحقيقة قال أبو بکر الصديق -رضي الله عنه-: "أيها الناس، إنکم تقرؤون هذه الآية: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيۡکُمۡ أَنفُسَکُمۡۖ لَا يَضُرُّکُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَيۡتُمۡۚ} [المائدة: 105] فتضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الناس إذا رأوا منکرًا لا يغيروه أوشک الله أن يعمهم بعقابه)) [رواه الإمام أحمد].
ومن الأمور الهامة -التي يغفل عنها الکثيرون- تمييز العلماء والمفسرين والفقهاء بين "الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر -الذي هو فريضة على الأفراد والجماعات في حدود علمه وسلطته وولايته- وبين "تغيير" المنکر، الذي جعلوه من عظائم الأمور، والذي لا يتولاه إلا العلماء العالمون بأحکام الشريعة ومراتب الاحتساب کما اشترط العلماء في المنکر الذي يجب تغييره شروطًا خمسة:
أولها: أن يکون محظورًا في الشرع.
وثانيها: أن يکون موجودًا في الحال.
وثالثها: أن يکون ظاهرًا بغير تجسس.
ورابعها: وهو هام جدًّا أن يکون المنکر معلومًا بغير اجتهاد أي مجمعًا على تحريمه، وليس من الأمور المتشابهات والمختلف في تحريمها.
وخامسها: أن لا يفضي تغيير هذا المنکر إلى مفسدة أکبر منه.
کما اتفق العلماء على ضرورة الرفق والتدرج في مراتب التغيير للمنکر. فالتنبيه أولا.. والتذکير ثانيًا.. والوعظ والتخويف ثالثًا.. والزجر والتأنيب رابعًا.. فالتغيير باليد خامسًا.. فإيقاع العقوبة ممن له سلطة إيقاعها سادسًا.. فرفع الأمر إلى القضاء سابعًا. کما اشترطوا فيمن يتصدى لتغيير المنکر أن يکون قدوة وأسوة في ذلک.. يبدأ بنفسه، فأسرته، فجيرانه، ثم الأقرب فالأقرب.
کما ميز العلماء بين الإنکار للمنکر بالقلب -أي بالرفض- وهو فريضة على کل المکلفين وبين التغيير باليد أو باللسان، الذي اشترطوا في القائمين به أن تکون لهم سلطات مخولة من الأمة، وليس بمبادرات فردية تؤدي إلى الفوضى وإلى عکس المقاصد التي أرادها الشرع الحنيف من وراء هذه الفريضة الکبرى من فرائض الإسلام..
ولهذه الضوابط الشرعية، صارت هذه الفريضة موضوع ولاية من ولايات الدولة الإسلامية، تضبط القيام بها بضوابط الشريعة الإسلامية.
وفي العصر الحديث، حظيت هذه الفريضة باهتمام کبير من علماء مدرسة الإحياء والتجديد – وخاصة من الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده [1266 – 1323 هـ، 1849 – 1905م].. الذي ميز في القيام بهذه الفريضة بين مستويين:
1- مستوى الجماعة المؤمنة.. أي مستوى الکافة، فيما هو معلوم ومقدور لکل فرد من أفرادها.
2- ومستوى الأمة الأخص، المنتخبة من جميع المؤمنين؛ لتتولى -عن علم وقدرة وتنظيم- القيام بهذه الفريضة الجامعة داخل الوطن الإسلامي وخارجه.
ولقد اشترط الأستاذ الإمام في هذه الأمة الخاصة -المنتخبة من الأمة والجماعة العامة- عشرة شروط تؤهلها للقيام بالدعوة إلى الخير -الإسلام- والأمر بالمعروف والنهي عن المنکر.. وقال في هذا المقام کلامًا نفيسًا وهو يفسر قول الله سبحانه وتعالى: {وَلۡتَکُن مِّنکُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنکَرِۚ وَأُوْلَٰٓئِکَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} [آل عمران: 104] قال: "إن المعروف عند إطلاقه، يراد به ما عرفته العقول والطباع السليمة، والمنکر ضده، وهو ما أنکرته العقول والطباع السليمة.. والمرشد إليه، مع سلامة الفطرة، کتاب الله وسنة رسوله المنقولة بالتواتر والعمل، وهو ما لا يسع أحدا جهله، ولا يکون المسلم مسلمًا إلا به.. والمراد "بالخير" -في الآية-: الإسلام. فالواجب دعوة الناس إلى الإسلام أولا... والمرتبة الثانية، في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنکر، هي دعوة المسلمين بعضهم بعضًا إلى الخير وتآمرهم فيما بينهم بالمعروف وتناهيهم عن المنکر"..
وللأمر بالمعروف والنهي عن المنکر طريقان:
أحدهما: الدعوة العامة الکلية، ببيان طرق الخير، وتطبيق ذلک على أحوال الناس، وضرب الأمثال المؤثرة في النفوس التي يأخذ کل سامع منها بحسب حاله، وإنما يقوم على هذا الطريق خواص الأمة، العارفون بأسرار الأحکام وحکمة الدين وفقهه، وهم المشار إليهم بقوله تعالى: {فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن کُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ} [التوبة: 122] ومن مزايا هؤلاء تطبيق أحکام الله تعالى على مصالح العباد في کل زمان ومکان، فهم يأخذون من الأمر العام بالدعوة والأمر والنهي على مقدار علمهم.
والطريق الثاني: الدعوة الجزئية الخاصة، وهي ما يکون بين الأفراد بعضهم مع بعض، ويستوي فيه العالم والجاهل، وهو ما يکون بين المتعارفين من الدلالة على الخير والحث عليه عند عروضه، والنهي عن الشر والتحذير منه، وکل ذلک من التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وکل واحد يأخذ من الفريضة العامة بقدره..
ومن العجب أن بعض الناس اشترطوا لهذه الفريضة شرطًا لم يأذن به الله ولم ينزله في کتابه، وهو أنه لا يأمر ولا ينهى إلا من کان مؤتمرًا ومنتهيًا.
ويشترط بعضهم للوجوب شرطًا آخر، وهو الأمن على النفس، وکان ينبغي أن يقولوا: على الآمر بالمعروف والناهي عن المنکر أن يدعو بالحکمة والموعظة الحسنة حتى لا ينفر الناس أو لا يحملهم على إيذائه، فإن الله يقول إنه لا نجاة للناس إلا بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، ولم يشترط في ذلک شرطًا. إن الله تعالى أمر الناس بالتواصي بالحق والدعوة إلى الخير وأمرهم أن يعدوا لذلک عدته ويعرفوا سبله، وهي مبسوطة في السنة.. فهذه هي الحکمة، وبها تجب القدوة: {قُلۡ إِن کُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡکُمُ ٱللَّهُ} [آل عمران: 31] وإنا لن نکون متبعين له حتى نأمر بالمعروف وننهى عن المنکر على سنته وطريقته...
وهناک من يخلطون بين النهي عن المنکر وتغيير المنکر الذي جاء في حديث: ((من رأى منکم منکرًا فليغيره)). وهذا "التغيير" شيء آخر غير النهي البتة، فإن النهي عن الشيء إنما يکون قبل فعله، وإلا کان رفعًا للواقع أو تحصيلا للحاصل، فإذا رأيت شخصًا يغش السمن مثلا وجب عليک تغيير ذلک ومنعه منه بالفعل إن استطعت، فالقدرة والاستطاعة هنا مشروطة بالنص، فإن لم تقدر على ذلک وجب عليک التغيير باللسان، وهو غير خاص بنهي الغاش ووعظه، بل يدخل فيه رفع أمره إلى الحاکم الذي يمنعه بقدرة فوق قدرتک.
أما التغيير بالقلب فهو عبارة عن مقت الفاعل وعدم الرضا بفعله.
وللنهي طرق کثيرة وأساليب متعددة.
نعم، إن دعوة الأمة غيرها من الأمم إلى الخير الذي هي عليه لا يطالب بها کل فرد بالفعل، إذ لا يستطيع کل فرد ذلک، وإنما يجب على کل فرد أن يجعل ذلک نصب عينيه حتى إذا عنَّ له بأن لقي أحدًا من أفراد تلک الأمم دعاه، لا أنه ينقطع لذلک ويسافر لأجله، وإنما يقوم بهذا طائفة يعدون له عدته، وسائر الأفراد يقومون به عند الاستطاعة، فهو يشبه فريضة الحج، وهي فرض عين لکن على المستطيع، وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر آکد من فريضة الحج، ولم يشترط فيها الاستطاعة؛ لأنها مستطاعة دائمًا.
وجملة القول، أن الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنکر فرض حتم على کل مسلم، کما تدل الآية في ظاهرها المتبادر، وغيرها من الآيات کقوله تعالى: {کَانُواْ لَا يَتَنَاهَوۡنَ عَن مُّنکَرٖ فَعَلُوهُ} [المائدة: 79] وکذلک عمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم-.
وکون هذا حفاظًا للأمة وحرزًا ظاهر، فإن الناس إذا ترکوا دعوة الخير وسکت بعضهم لبعض على ارتکاب المنکرات خرجوا عن معنى الأمة، وکانوا أفذاذًا متفرقين لا جامعة لهم، ولهذا ضرب الرسول -صلى الله عليه وسلم- مثل راکب في سفينة يطوف على جماعة معه بماء، وکلٌّ ينفر مما معه، فقال لهم: إني في حاجة إليه، وذهب ينقر في السفينة، فإن أخذوا على يده نجوا ونجا معهم وإلا هلک وهلکوا جميعًا. ففشو المنکرات مهلکة للأمة: {وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنکُمۡ خَآصَّةٗ} [الأنفال: 25] فلا بد للمرء في حفظ نفسه ومن معه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر، لا سيما أمهات المنکرات المفسدة للاجتماع، کالکذب والخيانة والحسد والغش. فهذا ليس من فروض الکفاية التي يتواکل فيها الناس کصلاة الجنازة، إذ لا تجب على کل من علم أن هنا ميتا أن ينتظر غسله ليصلي عليه، بل يکفي أن يعلم أنه يوجد من يصلي عليه. ولکنه إذا رأى منکرًا وجب عليه أن ينهى عنه ولا ينتظر غيره.
بقي علينا بيان معنى الآية على القول بأن "من" للتبعيض، وتقدير الکلام: ولتکن منکم طائفة متميزة تقوم بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنکر. والمخاطب بهذا جماعة المؤمنين کافة، فهم المکلفون أن ينتخبوا منهم أمة تقوم بهذه الفريضة، فههنا فريضتان:
إحداهما: على جميع المسلمين.
والثانية: على الأمة التي يختارونها للدعوة.
ولا يفهم معنى هذا حق الفهم إلا بفهم معنى لفظ الأمة، وليس معنى الجماعة -کما قيل- وإلا لما اختير هذا اللفظ.
والصواب أن الأمة أخص من الجماعة، فهي الجماعة المؤلفة من أفراد لهم رابطة تضمهم ووحدة يکونون بها کالأعضاء في بنية الشخص. والمراد بکون المؤمنين کافة مخاطبين بتکوين هذه الأمة لهذا العمل هو أن يکون لکل فرد منهم إرادة وعمل في إيجادها ومراقبة سيرها بحسب الاستطاعة، حتى إذا رأوا منها خطأ أو انحرافًا أرجعوها إلى الصواب.
وقد کان المسلمون في الصدر الأول، لا سيما في زمن أبي بکر وعمر، على هذا النهج من المراقبة للقائمين بالأعمال العامة، حتى کان الصعلوک من رعاة الإبل يأمر مثل عمر بن الخطاب -وهو أمير المؤمنين- وينهاه فيما يرى أنه الصواب، ولا بدع فالخلفاء على نزاهتهم وفضلهم ليسوا بمعصومين، وقد صرح عمر بخطئه ورجع عن رأيه غير مرة..
وإذا کان کل فرد من أفراد المسلمين مکلفا بالدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنکر بمقتضى الوجه الأول في تفسير الآية -الذي يجعل «من» بيانية-.. فهم مکلفون بمقتضى هذا الوجه الثاني -الذي تکون فيه «من» للتبعيض- أن يختاروا أمة منهم تقوم بهذا العمل لأجل أن تتقنه وتقدر على تنفيذه، إن لم يوجد ذلک بطبعه کما کان في زمن الصحابة، فإقامة هذه الأمة الخاصة فرض عين يجب على کل مکلف أن يشترک فيه مع الآخرين، ولا مشقة في هذا علينا، فإنه يتيسر لأهل کل قرية أن يجتمعوا ويختاروا واحدا منهم أو أکثر. أن يختاروا جماعة يصح أن يطلق عليهم لفظ الأمة، ويعملوا ما تعمله بالاتحاد والقوة؛ ليتولوا إقامة هذه الفريضة فيها، کما يجب ذلک في کل مجتمع إسلامي سواء کان في الحواضر أو البوادي، فإن معنى الأمة يدخل فيه معنى الارتباط والوحدة التي تجعل أفرادها على اختلاف وظائفهم وأعمالهم، حتى في إقامة هذه الفريضة عند تشعب الأعمال فيها، کأنهم شخص واحد.
وهذه الأمة يدخل في عملها الأمور العامة التي هي من شأن الحکام وأمور العلم وطرق إفادته ونشره وتقرير الأحکام وأمور العامة الشخصية، ويشترط فيها العلم بذلک؛ ولذلک جعلت أمة، وفي معنى الأمة القوة والاتحاد، وهذه الأمور لا تتم إلا بالقوة والاتحاد، فالأمة المتحدة لا تقهر ولا تغلب من الأفراد، ولا تعتذر بالضعف يومًا فتترک ما عهد إليها، وهو ما لو ترک لتسرب الفساد إلى مجموع المسلمين.
وقد کان المسلمون في الصدر الأول، لا سيما على عهد الخليفتين أبي بکر وعمر -رضي الله عنهما- على هذه الطريقة، فقد کانت خاصة الصحابة الذين عاشروا النبي -صلى الله عليه وسلم- وتلقوا عنه متواصلين متکاتفين يشعر کل منهم بما يشعر به الآخر من الحاجة إلى نشر الإسلام وحفظه ومقاومة کل ما يمس شيئًا من عقائده وآدابه وأحکامه ومصالح أهله، وکان سائر المسلمين تبعًا لهم.
ولا نتکلم هنا فيما طرأ على الإسلام فأزال تلک الوحدة، ولکننا نذکر ما يجب أن تکون عليه الأمة الداعية إلى الخير الآمرة بالمعروف الناهية عن المنکر، أي القائمة بالواجبات التي هي قوام الوحدة وحفاظها، فإن أعمالها لا تتم إلا بأمور کثيرة منها:
1- العلم التام بما يدعون إليه: إن أول ما يجب على هؤلاء الدعاة العلم بالقرآن والعلم بالسنة وسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم- وسلف الأمة الصالح، وبالقدر الکافي من الأحکام.
2- العلم بحال من توجه إليهم الدعوة: في شئونهم واستعدادهم وطبائع بلادهم وأخلاقهم، أو ما يعبر عنه في عرف العصر بحالتهم الاجتماعية.
3- مناشئ علم التاريخ العام: ليعرفوا الفساد في العقائد والأخلاق والعادات فيبنوا الدعوة على أصل صحيح، ويعرفوا کيف تنهض الحجة ويبلغ الکلام غايته من التأثير، وکيف يمکن نقل هؤلاء المدعوين من حال إلى حال، ولهذا کان القرآن مملوءًا بعبر التاريخ.
4- علم تقويم البلدان: ليعد الدعاة لکل بلد منها عدتها إذا أرادوا السفر إليها.
5- علم النفس: وهو يساوي علم التاريخ في المکانة والفائدة، أي العلم الباحث عن قوى النفس وتصرفها في علومها وتأثير علومها في أعمالها الإرادية، مثال ذلک أن الأصل أن يکون العمل تابعا للعلم، ولکن کثيرا من الناس يعتقدون أن عمل کذا ضار ويأتونه، وعمل کذا نافع ويترکونه، فما هو السبب في ذلک؟ وهل يُحسِن دعوةَ هؤلاء إلى الخير وإقناعهم بترک الشر من لا يعرف لماذا ترکوا الخير واقترفوا الشر؟ فهذه المعرفة هي من علم النفس الذي يؤخذ منه أن من العلم ما يکون صفة للنفس حاکما على إرادتها مصرفا لها في أعمالها، ومنه ما هو صورة تعرض للذهن لا أثر لها في الإرادة فلا تبعث على العمل وإنما يکون مظهره القول أحيانا...
نعم، إن الإنسان في کل زمن يحتاج إلى نوع من طرق التعليم غير ما کان في الزمن الذي قبله، فالحقيقة الواحدة قد تختلف طرق العلم بها باختلاف الزمان والمکان والأحوال.
6- علم الأخلاق: وهو العلم الذي يبحث في الفضائل، وکيفية تربية المرء عليها، وعن الرذائل وطرق توقيه منها، وهو ضروري وما ورد فيه من الآيات والأحاديث وآثار الصحابة والتابعين يغني بشهرته واستفاضته عن إطالة الکلام فيه.
7- علم السياسة: وليس المراد السياسة الشرعية التي کتب فيها ابن تيمية وغيره، فهذه على ضرورتها داخلة في علم الکتاب والسنة والأحکام، وإنما المراد العلم بحال دول العصر وعلاقاتها وطرق سعيها.. والسياسة بهذا المعنى لم تکن في عصر الصحابة.
8- العلم بالفنون والعلوم: المتداولة في الأمم التي توجه إليها الدعوة ولو بقدر ما يفهم به الدعاة ما يرد على الدين من شبهات تلک العلوم والجواب عنها بما يليق بمعارف المخاطبين بالدعوة.
9- معرفة الملل والنحل: ومذاهب الأمم فيها؛ ليتيسر للدعاة بيان ما فيها من الباطل، فإن لم يتبين له بطلان ما هو عليه لا يلتفت إلى الحق الذي عليه غيره وإن دعاه إليه.
10- العلم بلغات الأمم التي تراد دعوتها:...
ومن أعمال هذه الأمة: الأخذ على أيدي الظالمين، فإن الظلم أقبح المنکر، والظالم لا يکون إلا قويا؛ ولذلک اشتُرط في الناهين عن المنکر أن يکونوا أمة؛ لأن الأمة لا تخاف ولا تغلب، فهي التي تقوِّم عوج الحکومة، والمعروف أن الحکومة الإسلامية مبنية على أصل الشورى، وهذا صحيح والآية أدل دليل عليه ودلالتها أقوى من قوله تعالى: } وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَيۡنَهُمۡ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ { ]الشورى: 38].
لأن هذا وصف خبري لحال طائفة مخصوصة أکثر مما يدل عليه أن هذا الشيء ممدوح في نفسه محمود عند الله، وأقوى من دلالته قوله: }وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ{ [آل عمران: 159]. فإن أمر الرئيس بالمشاورة يقتضي وجوبه عليه، ولکن إذا لم يکن هناک ضامن يضمن امتثاله للأمر فماذا يکون إذا ترکه؟
وأما هذه الآية: {وَلۡتَکُن مِّنکُمۡ أُمَّةٞ} فإنها تفرض أن يکون في الناس جماعة متحدون أقوياء يتولون الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنکر، وهو عام في الحکام والمحکومين، ولا معروف أعرف من العدل، ولا منکر أنکر من الظلم، وقد ورد في الحديث: ((لا بد أن يأطروهم على الحق أطرا)).
ومما يناط بهذه الأمة، وهو أصل کل معروف، النظر في تعليم الجاهلين، فإذا علمت أن في مکان ما طائفة من المسلمين جاهلين بما يجب اتخذت الوسائل لتعليمهم، ومن هنا يُعلم فساد ما يقوله کثير من الفقهاء من أنه لا يجب عليهم أن يتصدوا لتعليم الناس ما لم يسعوا إليهم ويسألوهم، ولا يجهل أحد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد تصدى لتعليم الناس ولم يقعد في بيته منتظرًا سؤال الناس ليفيدهم، وکذلک فعل الصحابة -عليهم الرضوان- اهتداء بهديه.
ثم إن کون القائمين بالأمر والنهي أمة يستلزم أن يکون لها رياسة تدبرها؛ لأن أمر الجماعة بغير رياسة يکون مختلا معتلا، فکل کون لا رياسة فيه فاسد، فالرأس هو مرکز تدبير البدن وتصريف الأعضاء في أعمالها، وکذلک يکون رئيس هذه الأمة مصدر النظام وتوزيع الأعمال على العاملين، فمنهم من يوجهون إلى دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، ومنهم من يوجهون إلى إرشاد المسلمين في بلادهم، ومقام الرياسة يختار بالمشاورة لکل عمل ولکل بلاد من يکونون أکفاء للقيام بالواجب فيها لتکون أعمالهم مؤدية إلى مقصد الأمة العام، فإن من معنى الأمة أن يکون للأفراد الذين تتکون منهم -وحدة في القصد من أعمالهم وسيرهم، فإذا اختلفت المقاصد فسد العمل باختلاف الآراء وتنکيث القوى؛ ولذلک جاء بعد هذه الآية النهي عن التفرق والاختلاف {وَلَا تَکُونُواْ کَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخۡتَلَفُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ وَأُوْلَٰٓئِکَ لَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ} [آل عمران: 105].
ثم إن کون الأمة الخاصة منتخبة من الأمة العامة يقتضي أن تکون للعامة رقابة وسيطرة على الخاصة، تحاسبها على تفريطها، ولا تعيد انتخاب من يقصر في عمله لمثله، فالأمة الصغرى المنتخبة (بفتح الخاء) تکون مسيطرة على أفراد الأمة الکبرى المنتخبة (بکسر الخاء)، وهذه تکون مسيطرة على الأمة الصغرى، وبهذا يکون المسلمون في تکافل وتضامن.
وبعد أن أمر الله -سبحانه وتعالى- بأن تکون منا أمة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنکر وبيّن أن أولئک هم المفلحون دون سواهم؛ -لأنهم هم الذين يقيمون الدين ويحفظون سياجه وبهم تتحقق الوحدة المقصودة منه- نهانا عن التفرق والاختلاف الذي يذهب بتلک الوحدة ويتعذر معه القيام بتلک الدعوة الصالحة فقال -عز من قال-: }وَلَا تَکُونُواْ کَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخۡتَلَفُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ{ [آل عمران: 105]. إن هذه الآية کالدليل على أنه يجب أن تکون وجهة الأمة الداعية الآمرة الناهية واحدة؛ لأن الذين سبقوهم ما أفلحوا؛ لعدم وحدتهم، کأنه يقول: لا يمکن أن تتکون فيکم أمة للدعوة والأمر والنهي إلا إذا اجتمعت على مقصد واحد، فالترتيب في الآيات طبيعي؛ إذ من البدهي أن المتفقين في المقصد لا يختلفون اختلافا ضارا ينافيه، وإنما يقع الاختلاف بعد التفرق في المقاصد والتباين في الأهواء بذهاب کل إلى تأييد مقصده وإرضاء هواه فيه، والاختلاف في الرأي لأجل تأييد المقصد المتفق عليه لا يضر، بل ينفع، وهو طبيعي لا مندوحة عنه.
قال الله تعالى في المتفرقين المختلفين بعد مجيء البينات: } وَأُوْلَٰٓئِکَ لَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ{. أما عذاب الدنيا فهو أن المتفرقين المختلفين الذين اتبعوا أهواءهم، وحکموا في دينهم آراءهم، يکون بأسهم بينهم شديدا، فيشقى بعضهم ببعض ثم يبتلون بالأمم الطامعة في الضعفاء، فتذيقهم الخزي والنکال، وتسلبهم عزة الاستقلال، وأما عذاب الآخرة فقد بين الله في کتابه أنه أشد من عذاب الدنيا وأبقى.
هل قام المسلمون بذلک الأمر }وَلۡتَکُن مِّنکُمۡ أُمَّةٞ{؟ وانتهوا عن هذا النهي } وَلَا تَکُونُواْ کَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخۡتَلَفُواْ{؟!
أما المتفقون الذين جمعوا عزائمهم وإرادتهم على العلم بما فيه مصلحة أمتهم وملتهم واعتصموا واتفقوا على الأعمال النافعة التي فيها عزتهم وشرفهم، وأصبح کل واحد منهم عونا للآخر ووليا له فأولئک تبيض وجوههم -أي تنبسط وتتلألأ بهجة وسرورا- عند ظهور أثر الاتفاق والاعتصام ونتائجهما، وهي السلطة والعزة والشرف وارتفاع المکانة وسعة السلطان، وهذا الأثر ظاهر في الأمم المتفقة المتحدة التي يتألم مجموعها إذا أهين واحد منها في قطر من أقطار الأرض بعيد أو قريب، وتجيش جميعها مطالبة بنصره والانتقام له؛ لأنه ظلم وأهين ولا يصح عندها أن يکون منها ثم يظلم أو يهان وتکون هي راضية ناعمة البال، أولئک الأقوام ترى على وجوههم لألاء العزة وتألق البشر بالشرف والرفعة، وهو ما يعبر عنه ببياض الوجه، وأما المختلفون لافتراقهم في المقاصد، وتباينهم في المذاهب والمشارب، الذين لا يتناصرون ولا يتعاضدون ولا يهتم أفرادهم بالمصلحة العامة التي فيها شرف الملة وعزة الأمة فهم الذين تسود وجوههم بالذلة والکآبة يوم تظهر عاقبة تفرقهم واختلافهم بقهر الأجنبي لهم ونزعه السلطة من أيديهم، والتاريخ شاهد على صدق هذا الجزاء في الماضين، والمشاهدة أصدق وأقوى حجة في الحاضرين([2]).
تلک هي حقيقة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر، التي جعلها الإسلام فريضة الفرائض وأم الفرائض، فتحتها تندرج کل فرائض العمل العام، وبها تقام کل شعب الإيمان، وهي واجبة على الکافة من الأمة، وفق الاستطاعة والسلطة والولاية والإمکانات، وهي فريضة مؤکدة على العلماء العاملين وأهل الاختصاص، الذين يجب على جمهور الأمة أن ينتخبوهم أمة أخص يمتد سلطانها إلى ما هو أبعد من سلطان جمهور الناس وآحادهم.
ولقد قامت على هذه الفريضة مؤسسة من مؤسسات الدولة الإسلامية منذ عصر النبوة -هي مؤسسة الحسبة والمحتسب- واستمرت هذه المؤسسة قائمة عبر تاريخ الإسلام، کولاية من ولايات الدولة الإسلامية التي اقتضتها الشريعة الإسلامية.
وعندما غفا المسلمون غفوتهم الحضارية الکبرى، وعدت على أوطانهم عوادي الاستعمار والغزو الفکري الغربي -الوضعي والمادي والعلماني- تراجعت مکانة هذه الفريضة وهذه الولاية في الدول الإسلامية التي شاعت فيها مفاهيم الحريات الفردية -بالمعنى الليبرالي-.. تلک الحريات التي قال عنها عبد الله النديم [1261-1313هـ 1845-1896م]: «إنها حريات بهيمية؛ لأن الحرية الحقيقية هي معرفة الحقوق والوقوف عند الحدود».([3])
حتى تبلورت مدرسة الإحياء والتجديد الإسلامي -في القرن التاسع عشر الميلادي- فدعت إلى إحياء هذه الفريضة الغائبة.. وقال عنها الإمام محمد عبده: إنها آکد من فريضة الحج.. وهي واجبة على کل من استطاع إليها سبيلا.. إنها فريضة عامة في الحکام والمحکومين؛ لإقامة المعروف -ولا معروف أعرف من العدل- ولإزالة المنکر -ولا منکر أنکر من الظلم- کما قال الأستاذ الإمام.
[1] - الماوردي [أدب الدنيا والدين] ص 132 طبعة القاهرة 1973م.
-[2] ] الأعمال الکاملة للإمام محمد عبده [جـ5 ص 53-66. دراسة وتحقيق: د. محمد عمارة. طبعة القاهرة 1993م.
-[3] مجلة ]الأستاذ] العدد التاسع عشر ص 439- 8 جمادى الثانية 1310هـ - 27 ديسمبر 1892م.