تتميز اللغة العربية بسمات فريدة في مفرداتها وتراکيبها، من حيث الدقة والوفرة والتنوع، مما يتيح للناطق بها إمکانيات کبيرة في التعبير وصياغة المعنى، وتشکيل الأسلوب. والأسلوب سمة لغوية فردية للإنسان تميزه کقسمات وجهه وبصمات أصابعه، فلکل منَّا أسلوب يخصه، ويعبِّر عن فکره وثقافته وشخصيته وتجربته في الحياة، بحيث تظهر من خلاله التنوعات الفردية في الأداء اللغوي، ويتضح مدى الانحراف عن المستوى المألوف بالنسبة للمبدعين. والأسلوب محصلة السمات الأسلوبية التي تميز الإنتاج اللغوي للأفراد، فالسمات الأسلوبية للأدباء والشعراء واضحة في إنتاجهم الأدبي، فقد "رُزِقَ المتنبي إحکام التسديد إلى الغاية، والاقتصاد إلى الحدِّ الواجب، وعُرِفَ ابن الرومي بشرح المعنى وتصفيته والتوليد منه، ومهيار بالحشو وفتور الروح، والمعري بالتردد وکثرة الموازنة والتحليل" (المازني، 2005، 158). وکان زُهير بن أبي سلمى يتألَّهُ ويتعفَّفُ في شعره، ويجمع کثيرا من المعنى في قليل من المنطق، ويُبالغ في المدح (الجمحي، د.ت، 1/64). ولو لم نتقابل مع العقاد، ولم نتحدث إليه، ولم نعلم من أمر حياته الشخصية قليلا ولا کثيرا لوجدنا في أسلوبه طبيعة الجِدِّ والصرامة، ولرأينا کتابته مستقيمة لا خلل فيها ولا خطأ ولا هلهلة، ولا تفکک ولا تحلل، وکتابة العقاد لم يُرِد بها أن يُسَرِّي عن قارئه همومه، أو أن يستجلِبَ لعينِه النعاس، بل أراد أن يُنَبِّهَه ويطرد عنه النوم (عبد المطلب، 1994، 227). والسمات الأسلوبية تُعزَى إلى أمرين أساسيين: (الشکل): أي طرائق اختيار المکونات اللغوية بدءا من الصوتيات حتى الألفاظ والتراکيب وتأليف الکلمات والجمل وطولها.. بما يعود إلى تقنيات اللغة، وخواصها التعبيرية. (المضمون): أي وجهة النظر للعالم والأحداث، أي الطريقة التي تُقَدَّم رؤية فکرية معينة (برکة وآخرون، 2002، 26). والأسلوب يُحدِث "انطباعا" مميزا في النفس، وهذا الانطباع عبارة عن إحساس بسيط أو مرکَّب بـ"السمة الأسلوبية"، وهو ما عناه ابن طباطبا بقوله: "وللأشعار الحسنة - على اختلافها - مواقع لطيفة عند الفهم لا تُحَدُّ کيفيتها، کمواقع الطعوم المرکَّبة الخفيَّة الترکيب، اللذيذة المذاق، وکالأراييح الفائحة المُختلفة الطِّيب والنَّسيم، وکالنقوش الملوَّنة التقاسيم والأصباغ، وکالإيقاع المُطرِب المختلِف التأليف، وکالملامس اللذيذة الشهيَّة الحس فهي – أي الأشعار الحَسَنَة – تلائمه إذا وردت عليه فيلتذُّها و يقبلها" (ابن طباطبا، د.ت، 53). والتراث الأدبي والنقدي العربي مُفعَمٌ بهذه الانطباعات الأسلوبية کالعذوبة والفخامة والجزالة واللين والضعف والکزازة والحلاوة والتوعر والعُنجهية والرزانة والسلاسة والخنوثة والرونق والرِّقة والسُّخْف والسفسف، والرکاکة، والملاحة، وشدة الأسر، ورقة الحاشية، والمتانة، والفُحش والتفحش، والإغراب والوحشية، والانسجام، والحصافة، والإبداع ثم يکون من ذلک تعبيرات مجازية وکنائية ذات دلالة أسلوبية مثل: فلان ينحت من صخر، وفلان يغرف من بحر...الخ بل إن من علماء التراث من اتخذ من هذه الانطباعات مدخلا (أسلوبيا) لتحليل إعجاز القرآن الکريم: "فإن أجناس الکلام مختلفة ومراتبها في درجة البيان متفاوتة، فمنها البليغ الرصين الجزل ومنها الفصيح القريب السهل، ومنها الجائز الطلق الرسل، وهذه أقسام الکلام الفاضل المحمود، فالقسم الأول أعلاه والثاني أوسطه والثالث أدناه وأقربه، فحازت بلاغات القرآن من کل قسم حصة، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الکلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة وهما على الانفراد في نعوتهما کالمتضادين؛ لأن العذوبة نتاج السهولة، والجزالة والمتانة في الکلام يعالجان نوعا من الوعورة، فکان اجتماع الأمرين في نظمه مع نبو کل منهما عن الآخر فضيلة خص بها القرآن يسرها الله بلطيف قدرته؛ ليکون آية بينة لنبيه ودلالة على صحة ما دعا إليه" (الخطابي، د.ت، 26-27). ولکن هذه الانطباعات الأسلوبية – على اتساعها وعمقها - لم يُقَيَّض لها مَن يُعنى بتحديدها إجرائيا وجمعها ودراستها وتصنيفها بما يُسفِر عن نظرية واضحة في هذا الشأن باستثناء محاولات مُدانِية وليست مُداخِلة کمحاولة (حسان، 1990) التي حلَّل (7) سبعا منها فقط، وأطلق عليها "دلالات وراء الصياغة اللغوية". وقد تطور مفهوم الأسلوب وطريقة دراسته تطور تطورا کبيرا في العصر الحديث، فقد سبق مصطلح الأسلوب style مصطلح الأسلوبية stylistic بوقت طويل، فالأسلوبية لم تظهر إلا في أوربا أواخر العِقد الأول من القرن العشرين مع ازدهار الدراسات اللغوية الحديثة على يد دي سوسيير