مقدمة
1- تعريف بموضوع البحث:
يعد وضوح نصوص التجريم والعقاب من النتائج الأساسية لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، بما يعنيه من أنه لا جريمة ولاعقوبة إلا بناء على قانون (المادة 95 من دستور جمهورية مصر العربية لعام 2014)، فلا يجوز أن يشوبها اللبس أو الغموض، کما يجب أن تکون منضبطة بغير عموم أو استرسال، وبحيث لا تنطوي على إفراط أو تفريط فيما يتعلق بمضمونها.
وفي ذلک تقول المحکمة الدستورية العليا "..... إن غموض النصوص العقابية يعني انفلاتها من ضوابطها وتعدد تأويلاتها، فلا تکون الأفعال التي منعها المشرع أو طلبها محددة بصورة يقينية، بل شباکا أو شراکا يلقيها المشرع متصيدا باتساعها أو إخفائها من يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها....." ([1]).
وفي ذات السياق فإن تناسب العقوبة مع جسامة الجريمة، يعد - کذلک - من نتائج مبدأ الشرعية، بل ويعد في ذاته مبدأ دستوريا. وفي ذلک تقرر المحکمة الدستورية العليا في مصر ".... أن القانون الجنائي، وإن اتفق مع غيره من القوانين في سعيها لتنظيم علائق الأفراد فيما بين بعضهم البعض، وکذلک على صعيد علاقاتهم بمجتمعاتهم، إلا أن القانون الجنائي، يفارقها في اتخاذ العقوبة أداة لتقويم ما لا يجوز، التسامح فيه اجتماعيا من مظاهر سلوکهم، وشرط ذلک أن يکون الجزاء الجنائي حائلا دون الولوج في الإجرام، ملبيا ضرورة أن يتهيأ المذنبون لحياة أفضل مستلهما أوضاع الجناة وخصائص جرائمهم وظروفها، نائيا بعقابهم أن يکون غلوا أو تفريطا بما يفقد فعالية القواعد التي تدار العدالة على ضوئها، ويتعين بالتالي أن يکون الجزاء الجنائي محيطا بهذه العوامل جميعها، وأن يصاغ على هديها، فلا يتحدد بالنظر إلى واحد منها دون غيره...... "([2]).
وهذا يستوجب تواجد الجزاء الواجب التطبيق قرينا للفعل المؤثم، بصفة مجردة، ويفرده القاضي استنادا إلى العناصر الأخرى التي تبدو من التحقيقين الابتدائي والنهائي. ولا شک أنه من الضرورى، أن يثبت تناسب هذا الجزاء مع الإثم المرتکب على النحو الوارد في نص التجريم والعقاب. وفي ذلک تقرر المحکمة الدستورية العليا ".... أن شرعية الجزاء - جنائيا کان أم مدنيا أم تأديبيا - مناطها أن يکون متناسبا مع الأفعال التي أثمها المشرع، أو حظرها أو قيد مباشرتها. فالأصل في العقوبة هو معقوليتها، فکلما کان الجزاء الجنائي بغيضا أو عاتيا، أو کان متصلا بأفعال لا يجوز تجريمها، أو مجافيا بصورة ظاهرة للحدود التي يکون معها متناسبا مع خطورة الأفعال التي نظمها المشرع، فإنه يفقد مبررات وجوده، ويصبح تقييدا للحرية ...." ([3]).
ولا شک أن الوصول إلى التناسب بين الجزاء الجنائي من ناحية، والفعل المرتکب، مقرونا بالإثم الجنائي من ناحية أخرى، يحتاج إلى العديد من الأدوات، لعل أهمها وضوح النص في تحديده لأرکان الجريمة وعناصرها، وفي تحديده للجزاء الواجب التطبيق؛ عقوبة کان أو تدبيرا احترازيا، وکون هذا الجزاء هو الواجب التطبيق على الفعل المنصوص عليه ؛ بحيث لا يجد القاضي نفسه في حيرة من أمره ،أي جزاء يطبقه على الفعل المرتکب.
ولعل قيام المشرع بالنص في القوانين الخاصة - دائما - وعند حديثه عن العقوبات الواجبة التطبيق على ما يرتکب من أفعال جرمتها هذه القوانين بالقول " مع عدم الإخلال بأي عقوبة أشد ينص عليها قانون العقوبات أو أي قانون آخر، يعاقب على الجرائم المبينة في المواد التالية بالعقوبات المنصوص عليها فيها " هذه الصيغة، التي صارت سنة متواترة في کل التشريعات الجنائية الخاصة أو المکملة، تشکل نوعا من الغموض حول العقوبة الواجبة التطبيق، وهو ما قد يتنافى - على نحو ما سنرى - مع الوضوح اللازم لنصوص التجريم والعقاب، ويحول دون توافر العناصر اللازمة لتنساب العقوبة مع الفعل المؤثم.
وبالتالي فموضوع هذا البحث، إنما ينصب على هذه الصيغة المتواترة، لمعرفة مضمونها، وما إذا کان من المناسب العدول عنها، أو البحث عن صيغة أخرى مخالفة.
([1]) المحکمة الدستورية العليا، في 5 يولية 1997، في القضية رقم58 لسنة 18 قضائية " دستورية " الجريدة الرسمية، العدد 29 في في 19 يونية 1997.
([2]) المحکمة الدستورية العليا في 5-8-2000، في القضية رقم2 لسنة 20 قضائية " دستورية"، مجموعة المبادئ، الجزء التاسع، ص688.
([3]) المحکمة الدستورية العليا، في في 2-6-2001، القضية رقم 114 لسنة21 قضائية " دستورية "، مجموعة المبادئ، ج 9، ص986.