تتلخص إحدى المشکلات الکبرى التي تعاني منها النظم التعليمية الحالية في أن الطلاب بعامة والطلاب الجامعيين بخاصة لا يستطيعون نقل ما تعلموه في جامعاتهم إلى واقع حياتهم، وأصبحت الجامعة مجرد مکان يتلقى فيه الطلاب موادهم الدراسية فحسب. والمأمول أن تُغَيِّر هذه النظم التعليمية فلسفتها من أجل إعداد الطلاب للحياة، بل اعتبار أن الجامعة هي الحياة ذاتها؛ وهذا يتماشى مع المبدأ الذي يُشَکِّل الأساس لأنموذج التعلم البنائي الاجتماعي؛ ففي ظل ذلک الأنموذج يتأمل الطلاب القضايا التي تعلموها في الجامعة، وينقلونها إلى حياتهم من خلال استخدام مهارات التفکير المختلفة.
وترى زحلوق (٢٠٠١) أن المرحلة الجامعية من المراحل المهمة في حياة الطالب خصوصًا في إعداده وتهيئته لمتابعة دراسته على مستوى الدراسات العليا؛ فالجامعات منارات حقيقة ومصدرًا للعقول البشرية الخلاقة والمتميزة وتؤدي دورًا کبيرًا في تنمية طاقات الطلاب وإبداعاتهم؛ وذلک من خلال ما توفره لهم من خدمات وفرص حقيقية تمکنهم من بناء شخصيتهم ، وبناء العلاقات مع الآخرين والتواصل الاجتماعي بين الطلبة وتکوين صداقات جديدة.
ولقد أصبح الاهتمام بتنمية مهارات التفکير المختلفة حاجة مهمة تفرضها متطلبات العصر الحديث، وأصبحت المؤسسات التربوية مطالبة بتدريب الطلاب على استخدامها؛ لأن الاعتماد على تلقين المعرفة أصبح غير مقبول کأساس لعملية التعليم والتعلم؛ ولأنه أصبح من الصعب على الطالب أن يُلم بالمعرفة التي أخذت کمياتها تتضاعف کثيرًا، إضافة إلى ذلک أن الأسلوب التقليدي في التعليم أخذ يُقَوْلِب شخصيات الطلاب في اتجاه واحد يعيقهم عن التفکير القائم على المعرفة المتعمقة، والقدرة على استخدام تلک المعرفة في حل المشکلات التي تواجههم في حياتهم اليومية.
ولقد حظي موضوع التفکير Thinking باهتمام العديد من الباحثين والدارسين في ميدان علم النفس المعرفي، والتطوري، والعصبي، وغيرها لما له من أثر هام في التطور المعرفي للمتعلم، بحيث يمکنه من مواجهة الصعوبات والمشکلات في المجالات الأکاديمية، ومواقف الحياة العامة سواء أکانت اجتماعية أم تربوية أم أخلاقية أم غيرها.
ويُشار إلى التفکير على أنه عملية عقلية تتضمن قيام المتعلم بمعالجات عقلية مختلفة تبعًا لمتطلبات الخبرة المعرفية والحاجة المُراد تحقيقها؛ حيث يتطور فيها المتعلم من خلال تفاعله العقلي مع الخبرة المعرفية؛ مما يطور الأداء المعرفي، ويوصله إلى افتراضات ومعاٍن جديدة (قطامي، ٢٠٠١).
ويُوصف التفکير بأنه العملية العقلية التي يتفاعل فيها المتعلم مع ما يواجهه من خبرات ومواقف، ويولد ولديه منها الأفکار ويحللها ويعيد تنظيمها بهدف إدماجها في بنائه المعرفي (غباين، ٢٠٠٤).
ويشير العتوم والجراح وبشارة (2007) إلى أن التفکير هو نشاط عقلي يستخدمه الفرد بحيث يعطي معنى ودلالة للمواقف والخبرات التي يواجهها اعتمادًا على البنية المعرفية المتوافرة لديه؛ مما يساعده على التکيف والتفاعل العقلي مع المواقف التي يواجهها.
ويکاد يُجْمِعُ المربون والتربويون على أن الطالب الذي يتوصل لنتيجة معينة بعد الفحص والتحليل والتفسير بنفسه؛ سيکون قادرًا على تطبيقها، والتوصل لقواعد ونتائج وقوانين ونظريات جديدة، بينما الطالب الذي يتعود أن يستقبل القاعدة والنتيجة من معلمه يتعود باستمرار على استقبال المعلومات؛ مما يضر بقدراته العقلية ضررًا بالغًا، ويقتل فيه عمليات التفکير التأملي، والابتکاري، والتخيل، والبحث، والاستقصاء، والتصدي لحل المشکلات (Gurol, 2011, p.387).
ويشير علماء المستقبل إلى أن المعارف البشرية تتضاعف کل ثلاث إلى خمس سنوات، وإذا صح ذلک؛ فإن أهمية محتوى المناهج الدراسية لابد أن تتناقص من سنة إلى أخرى؛ ومن ثم فإن النتيجة الحتمية لذلک هي زيادة الاهتمام بما يطلق عليه "أدوات التفکير"، أو "مهارات التفکير" لأنها حتى وإن کانت تُعَلَّم من خلال محتوى دراسي معين؛ فإنه عند إتقانها والسيطرة عليها تبقى لدى المتعلم کالزاد الذي ينفعه رغم تغير الزمان والمکان والمحتوي (جروان، ٢٠٠٢، ص43).
ومن هذا المنطلق أصبحت تنمية التفکير التأملي Reflective Thinking أحد الأهداف الرئيسة للتربية، وأحد الأهداف الرئيسة لبرجماتية ديوي Dewey ؛ الذي وصفه -ديوي- بأنه: ذلک التدارس النشط، والمستمر، والمتأني لأي معتقد إبستمولوجي، أو أي شکل مُفترض من المعرفة على ضوء الأسس التي تدعمها، والتوصل إلى الاستنتاجات التي تميل إليها. وذکر أيضًا أن التفکير التأملي يضيف معنى للخبرة من خلال إعادة تنظيمها، وإعادة بنائها، وتؤدي إلى مزيد من الأهداف التي تتطلب مهامًا أکثر شمولًا (Başol & Gencel, 2013, p.941).
ولقد زاد التوکيد على الحاجة إلى التأمل کجزء رئيس للتعلم من أجل التعلم؛ فمن خلال التأمل لا نتوقع من الطلاب أن يمارسوا مهارات التفکير التأملي کجزء من دراساتهم القائمة على المواد الدراسية فحسب، بل أيضًا نتوقع أن يتأملوا تعلمهم، وتنمو مهاراتهم وقدرتهم على إصدار الأحکام المتأنية (Lucas & Tan, 2006).
ويتطلب التفکير التأملي أن يُحقق المتعلم أهداف التعلم؛ ليتحول تعلمه إلى سلوک، وبعد ذلک يُقَيّم المتعلم أدائه الخاص، ويکون لديه تصور للتقدم الذي أحرزه؛ وبهذه الطريقة سيکون من الممکن الاستفادة من تلک الخبرة عند حدوثها في المستقبل؛ أي أن التأمل يربط بين الماضي والحاضر، و/أو المستقبل (Tan & Goh, 2008)، کما أنه يُصقل المعرفة من خلال التغيير على مستوى عميق في منظور الفرد وفهمه، ويؤکد على الاتصال الأساسي بين المتعلم والبيئة؛ مما يؤدي إلى صنع المعنى.
وتؤثر طريقة الفرد في صنع المعنى على عملية التعلم من خلال معتقداته الإبستمولوجية، ويوضح کيجان (Kegan, 2000, p.52) أن هذا التأثير ليس فيما نعرفه حقًا، ولکن في کيفية استخدام هذه المعرفة، وحينما يعتمد الفرد على معتقده الإبستمولوجي فحسب؛ فإنه قد لا يملک القدرة على حل المشکلات، ولا على إحداث تغيير إيجابي في الافتراضات الراسخة في ذهنه (Lucas & Tan, 2007).
بيد أنه بالنظر إلى الواقع الحالي للتدريس الجامعي؛ يُلْحَظْ أنه يُرکز على عملية نقل المعلومات بدلًا من الترکيز على توليدها، وبات دور المعلم منحصرًا في التلقين، ودور المتعلم في الاستماع والحفظ؛ مما قد يحرم المتعلم من فرصة التدريب على مهارات التفکير التأملي التي تتعاظم أهميته في العصر الحالي.