فرضت التغيرات الجذرية التي ظهرت مع بداية القرن الحالي العديد من التحديات على کافة مناحي الحياة الإنسانية؛ مما استوجب على النظم التربوية المعنية ببناء شخصية الإنسان وتشکيلها إعادة النظر في سياساتها وبرامجها استجابة لتلک المتغيرات.
وفي ضوء ذلک أصبحت الحاجة أکثر إلحاحاً لتنشئة جيل فعال، قادر على التعلم الدائم، ومسلح بکل ما يمکنه من مواکبة مستحدثات هذا العصر وثورته المعلوماتية الهائلة، ليس هذا فحسب بل وفهمه والتعامل معه، واختيار ما يفيده ويفيد مجتمعه الذي يعيش فيه.
ولا شک أن إعداد جيل بهذه المواصفات يلقي على التربية مسؤولية جسيمة، لا سيما أن الفکر التربوي قد أثبت – في العديد من أدبياته – فشل التعليم التقليدي في تحقيق تلک الغاية المنشودة، کما أثبت حاجتنا إلى تربية فعالة تعمل على تنشئة متعلمين يتسمون بقدر عالٍ من علمية التفکير ومرونته ونزعته للنقدية (الجفري، 2011، 3)، وهذا لا يتم إلا بعملية إيقاظ العقل والانتقال به من حالة السلبية والتلقي والخمول إلى وضعية النشاط والحيوية والفعل .
وفي هذا الصدد ظهرت العديد من النظريات التربوية التي حاولت تفسير سلوک العقل البشري وأساليب التفکير التي يستند إليها الأفراد في معالجتهم للمعارف والمعلومات والمهارات التي يکتسبونها، وکان من أبرز هذه النظريات: نظرية النصفين الکرويين للدماغ، والتي أوضحت أن الدماغ البشري ينقسم طولياً إلى نصفين متماثلين هما (الزغلول، 2006، 262)، (عبيدات وأبو السميد، 2007، 26)، (نوفل، 2008، 97):
النصف الأيمن: ويطلق عليه الدماغ الإبداعي، وهو المسئول عن الحدث والوجدان والانفعال والخيال، ويتفرع من عملياته العادات العقلية التالية ( تطبيق المعارف السابقة في المواقف الجديدة، التساؤل وطرح المشکلات، التفکير بمرونة، التصور والابتکار والتجديد، الاستجابة بدهشة وتساؤل، التفکير في التفکير، الکفاح من أجل الدقة، إيجاد الدعابة.
النصف الأيسر: ويطلق عليه الدماغ الأکاديمي، وهو المسئول عن التفکير والمنطق والاستدلال، ويتفرع من عملياته العادات العقلية التالية (المثابرة، التحکم في التهور، التفکير التبادلي، الإصغاء إلى الآخرين بتفهم، الإقدام على مخاطر مسئولة، جمع البيانات باستخدام جميع الحواس، الاستعداد الدائم للتعلم المستمر.
وقد أکدت الأبحاث في هذا المجال أن نصفي الدماغ يحتويان قدرات عديدة ويشترکان في تنفيذ کثيراً من الأنشطة والوظائف العقلية المتنوعة، وأن زيادة قدرة المتعلم على التعلم مرهونة بتمرکز هذه القدرات في أحد هذين النصفين، أو بقدرته الفعلية على استخدام هذين النصفين معاً؛ الأمر الذي يحتم ضرورة العمل على تنمية العادات العقلية بنوع من التوازن؛ للعمل على تنشيط وظائف جانبي الدماغ للمتعلم (الجفري، 2011، 4).
وفي ضوء تلک النتائج تعالت دعوات الإصلاح في الميادين التربوية المختلفة، بضرورة الاهتمام بالعادات العقلية، والحرص على تنميتها، حيث يرى الحيلواني (2005، 115) أن نقطة البدء في بناء مجتمع متيقظ، ومهتم بکيفية إنتاج المعرفة والتعامل معها، تکمن في صنع ثقافة تعليمية لدى المتعلمين من خلال تدريس العادات العقلية في المدارس. کما أکد مارشال (Marshall, 2008, 8) على أن اهتمام المدارس بالمعارف والمهارات والعادات التي يکتسبها العقل هو المطلوب في العصر الحالي للحصول على العلم الحقيقي . ويرى بوکيت (Buckeit, 2010, 90) أن التدريب على استخدام عادات العقل يسهم في إنشاء جيل قادر على مواجهة تحديات الانفجار المعرفي. ويرى کوســتا وکاليک (2003) أن الهدف المحوري من اکتساب المتعلمين لعادات العقل هو تأهيلهم لاسـتخدام تلـک العادات حينما تواجههم مواقف من الشک أو التحدي.
وبناء على تلــک التوجهـات العصــرية فــإن المنهجية التقليدية القائمة فـي عمليات الـتعلم لـم تعـد ذات جدوى في ضوء هذه التوجهات التي تدعو إلى إعمال الفکر، وامتلاک مهارات عقلية عليا بالإفادة من نتائج دراسات الـدماغ من حيث مکوناته، ووظائفه، وطاقاته التي تسـتثار بصـورة تلقائية عند تعرضها لخبرات جديدة، وفعاليات تدريبية (القداح ، 2011، 78)، لذا فقد ظهرت العديد من النماذج ومداخل التدريس التي سعت إلى تلبية روح العصر وطموحات المجتمع من خلال تقديم أنشطة تعليمية تنمي العادات العقلية المختلفة، وتحقق أهداف المراحل التعليمية .
ويعد نموذج مارزانو أحد النماذج التي سعت لتحقيق الأهداف السابقة، وقد ظهر هذا النموذج نتيجة لجهد کبير قام به روبرت مارزانو وزملاؤه من الفحص والدراسة للبحوث الشاملة التي أجريت في مجال المعرفة، وعلى عملية التعلم لمدة ثلاثين عاماً، وترجمت إلى نموذج عرف بأبعاد التعلم، أو أبعاد التفکير، يمکن أن يستخدمه المعلمون من مرحلة رياض الأطفال وحتى المرحلة الثانوية؛ لتحسين جودة التدريس والتعلم، وافترض النموذج خمسة أبعاد يمر بها المتعلم أثناء تعلمه، هي (مارزانو، 2005، 14-18):
الاتجاهات الايجابية نحو التعلم: أي أنه لکي يحدث التعلم ينبغي أن يتوافر لدى المتعلمين الإحساس بالأمن والارتياح في حجرة الدراسة.
اکتساب المعرفة وتکاملها: ويتحقق ذلک التکامل من خلال ربط المعرفة الجديدة بالمعرفة السابقة لدى المتعلمين، وتنظيم المعرفة الجديدة يساعد المتعلمين على تخزينها في الذاکرة طويلة المدى.
تعميق المعرفة وصقلها: فاکتساب المعرفة وتکاملها ليس غاية لعملية التعلم، إذ إن المتعلم يوسع ويمد معرفته ويصقلها ويضيف إليها تمييزات جديدة، ويکون روابط أبعد لها.
الاستخدام ذو المعنى للمعرفة: فالتعلم الفعال يحدث حين يستطيع المتعلم استخدام المعرفة لأداء مهام لها معنى، وتوظيف ما تعلمه في حياته العامة.
عادات العقل المنتجة: حيث حدد في هذا البعد عدة عادات عقلية يرى ضرورة اکتسابها واستخدامها من قبل المتعلم خلال العملية التعليمية، مثل التفکير الناقد، والتفکير الإبتکاري، وتنظيم الذات.
ويعکس نموذج أبعاد التعلم ثلاث نظريات أساسية في التفاعل التعليمي، تتمثل في التعلم المتوافق مع وظائف المخ، والتعلم المتمرکز حول المشکلات، والتعلم التعاوني (مارزانو وآخرون، 2005، 10).
وقد أکدت العديد من الدراسات على أهمية نموذج مارزانو لأبعاد التعلم في تحقيق العديد من النتائج التعليمية التي تعتبر بمثابة أهداف لعملية التعلم، وأن هذا النموذج ربما يوجد الحلول لکثير من المشکلات التربوية، وذلک من خلال البعد عن الأساليب التقليدية التي ترکز على اکتساب المعارف والمفاهيم لذاتها، وسلبية المتعلم في تحصيلها، مما يفقد هذه المعارف أهميتها وقيمتها بالنسبة للمتعلم، مثل دراسة السيد (2007) التي هدفت إلى تعرف مدى فاعلية استخدام نموذج مارزانو لأبعاد التعلم في تنمية مهارات التفکير الناقد واتخاذ القرار من خلال تدريس الفلسفة لطلاب المرحلة الثانوية، وتوصلت الدراسة إلى وجود فروق ذات دلالة إحصائية بين متوسطات درجات طلاب المجموعتين التجريبية والضابطة في التطبيق البعدي لکل من اختبار مهارات التفکير الناقد، ومقياس مهارات اتخاذ القرار، واختبار اتخاذ القرار نحو بعض القضايا الفلسفية والاجتماعية الراهنة لصالح طلاب المجموعة التجريبية.
ودراسة فتح الله (2009) التي هدفت إلى تعرف فاعلية استخدام نموذج أبعاد التعلم لمارزانو في تنمية الاستيعاب المفاهيمي وبعض العادات العقلية لدى تلاميذ الصف السادس، وتوصلت الدراسة إلى وجود فروق ذات دلالة إحصائية بين متوسطي درجات تلاميذ المجموعتين التجريبية والضابطة، لصالح تلاميذ المجموعة التجريبية في اختبار الاستيعاب المفاهيمي، ومقياس العادات العقلية الخمس التي اقتصرت عليها الدراسة وهي (المثابرة، والتساؤل وطرح المشکلات، والتحکم في التهور، والتفکير التبادلي، وتطبيق المعرفة الماضية في مواقف جديدة). کما أکدت نتائج الدراسة وجود علاقة ارتباطية موجبة بين الاستيعاب المفاهيمي وممارسة العادات العقلية لدى تلاميذ المجموعة التجريبية الذين درسوا بنموذج مارزانو لأبعاد التعلم.
ودراسة إبراهيم (2010) التي هدفت إلى قياس فاعلية برنامج قائم على نموذج أبعاد التعلم لتنمية مهارات القراءة الإبتکارية لدى طلاب المرحلة الثانوية، وقد توصلت الدراسة لعدد من النتائج أهمها وجود فروق دالة إحصائياً بين متوسطات درجات طلاب المجموعتين التجريبية والضابطة في القياس البعدي لمدى نمو متطلبات ومهارات القراءة الابتکارية وعددها (16) مهارة لصالح طلاب المجموعة التجريبية.
ودراسة العريان (2011) التي هدفت إلى تعرف فاعلية برنامج قائم على نموذج أبعاد التعلم في تنمية التفکير العلمي لدى طلاب الصف التاسع الأساسي بغزة، وتوصلت الدراسة إلى تفوق طلاب المجموعة التجريبية على طلاب المجموعة الضابطة في اختبار مهارات التفکير، کما توصلت الدراسة إلى وجود فروق دالة إحصائياً بين متوسطات درجات الطلاب مرتفعي التحصيل في المجموعة التجريبية وأقرانهم مرتفعي التحصيل في المجموعة الضابطة لصالح طلاب المجموعة التجريبية في اختبار مهارات التفکير العلمي، بينما لم تظهر هذه الفروق بين الطلاب منخفضي التحصيل في المجموعتين.
ودراسة الطلحي (2013) التي هدفت إلى تعرف فعالية استخدام نموذج مارزانو لأبعاد التعلم في زيادة التحصيل الدراسي وتنمية بعض عادات العقل في مادة التربية الاجتماعية والوطنية لدى تلاميذ الصف الخامس الابتدائي في مدينة الطائف، وقد توصلت الدراسة إلى وجود فروق ذات دلالة إحصائية عند مستوى (0.05) بين متوسطات درجات طلاب المجموعة التجريبية التي درست وفقاً لنموذج مارزانو، وطلاب المجموعة الضابطة التي درست بالطريقة التقليدية، في کل من الاختبار التحصيلي ومقياس عادات العقل لصالح طلاب المجموعة التجريبية .
ودراسة عسيري (2014) التي هدفت إلى تعرف فعالية تدريس الفيزياء باستخدام نموذج مارزانو لأبعاد التعلم في تنمية الفهم والاتجاه نحو المادة لدى طالبات الصف الأول الثانوي، وقد توصلت نتائج الدراسة إلى وجود فروق دالة إحصائياً بين متوسطات درجات طالبات المجموعتين التجريبية والضابطة في التطبيق البعدي لاختبار الفهم في الفيزياء، ولمقياس الاتجاه نحو المادة لصالح طالبات المجموعة التجريبية.
وفي ضوء ما سبق تتضح أهمية نموذج مارزانو لأبعاد التعلم، حيث إنه يسعى لتنمية وتطوير التکامل بين اکتساب المعرفة وتوسيعها والاستخدام ذي المعنى لها، في إطار من الاتجاهات والإدراکات الإيجابية عن التعلم، والاستخدام المناسب للعادات العقلية المنتجة من قبل المتعلم . لذا جاءت الدراسة الحالية لتستفيد من هذا النموذج في تنمية التحصيل وعادات العقل لدى طلاب التعليم الثانوي الصناعي.