إن المتأمل في حال عالمنا المعاصر ليرى بوضوح ما تتعرض له أمتنا الإسلامية من نکبات على يد أعدائها, والهدف المبطن لکل هذه الحملات المغرضة هو هدم الأمة الإسلامية وجعلها أمة تابعة منشغلة بنفسها, ومتحاربة فيما بينها, يقتل بعضها بعضا لتنشغل عن أداء رسالتها الخالدة.
ويرى الهذيلي (1433, 2) أن الطريق الذي اتبعه الأعداء لتحقيق هذا الغرض يتمثل في تشکيک أبناء الإسلام في عقيدتهم ومسخ هويتهم وحملهم على الانسلاخ من مبادئهم وقيمهم وزعزعة أمنهم عن طريق ما يلقونه من شبهات وشهوات. ومن هنا کان لزامًا على المثقف المسلم أن يدرس هذه الأفکار, وأن يصرف عزمه إلى تحصين العقول وحصانتها فکريا وجعلها أبوابًا موصدة لتحديات الأمن الفکري المعاصر.
إن التحديات التي تواجهها المجتمعات الإسلامية کثيرة, ولعل أبرزها ما يتعلق بالأمن الفکري, ويرى الصالح (2008, 8): أن انتشار ظاهرة الانحراف الفکري والبعد عن الاعتدال في التفکير کان سببا مباشرا في ظهور الفتن والصراعات وتعدد المذاهب الفکرية والاتجاهات, وهذا ما يضعف قوة الأمة وعزتها, ويهدد کيانها ويفقدها أمنها واستقرارها؛ فيعم الخوف والاضطراب, وتسفک الدماء البريئة, وتقتل الأنفس المعصومة.
وقد أشارت تحليلات الخبراء وذوي الاختصاصات النفسية والاجتماعية والشرعية إلى أن التهديدات الأمنية بکافة صورها إنما تنطلق من فکر منحرف يدفع بعض الجماعات والأفراد إلى تبني رؤى وتصورات ومعتقدات معينة تبرر لهم القيام بأعمال عنف تهدد أمن المجتمع لتحقيق أهدافهم (محمد, 2013). ومن هنا فإن قضية الأمن الفکري تمثل مسألة وجود وبقاء لکل مجتمع.
ويهدف الأمن الفکري إلى بناء العقل وحمايته مما يؤدي به إلى الانحراف, وتحصينه في مواجهة المؤثرات التي قد تجعل صاحبها مصدر تهديد للأمن والاستقرار, ومعالجته وتصحيح ما قد يطرأ عليه من خلل أو اضطراب, ثم تأمين الدولة والمجتمع في مواجهة ما ينتج عن هذا العقل من مخرجات في الرؤى والأفکار والتوجهات التي يُعبر عنها عادة بالکلمة المسموعة أو المکتوبة وما يتبعها من سلوک أو تصرفات (الحکيم, 2009, 4).
کما يشير حميد (2010, 10) إلى أن الأمن الفکري يتصدى إلى کل فکر دخيل, ويحمي الإنسان من الانحراف أو الخروج عن الوسطية والاعتدال في فهمه لمختلف القضايا, کما يهدف إلى حفظ النظام العام, وتحقيق الأمن والطمأنينة والاستقرار في مناحي الحياة المتعددة, وإلى أن يعيش الناس في بلادهم آمنين على أصالتهم وعلى ثقافتهم المستمدة من دينهم.
ولعل الأحداث الإرهابية الأخيرة التي شهدها العالم وشهدتها المملکة العربية السعودية بما حملته من سفک للدماء, وإتلاف للمال العام والخاص, وإشاعة للخوف في قلوب أفراد المجتمع؛ تحتم علينا الانتباه لموضوع الأمن الفکري وما يتعلق به من موضوعات ومفاهيم, وتحصين أفراد المجتمع کافة ضد الانحرافات الفکرية التي قد تطرأ على بعض أفراده حتى يعيش المجتمع کله في استقرار وطمأنينة مواصلا عجلة التقدم والنماء.
ويعد التعليم المنطلق الذي يعتمد عليه المجتمع في تحصين شبابه وأبنائه, وهذا الأمر جعل السليمان (2006, 1) يعد المدرسة المؤسسة التربوية الاجتماعية ذات الأهمية العظيمة في التحصين المجتمعي؛ وذلک لأنها تلعب أدوارا مهمة في تشکيل سلوک النشء بما تمتلکه من نظم وأساليب تربوية, وما تضمه من کفايات متخصصة ومدربة, وهي المدخل الحقيقي والموضوعي المعني بتکوين المفاهيم الصحيحة وتعزيزها في أذهان الناشئة بصورة مخططة. ويؤکد ذلک الحربي (2008, 12)؛ حيث يرى أن العلاقة بين النظام التعليمي في المجتمع والأمن الفکري علاقة طردية, فکلما کان النظام التعليمي قويا ومخططا ومرتبطا بعقيدة المجتمع وتقاليده وعاداته کلما کان أقدر على مواجهة مهددات الأمن الفکري.
والتعليم الثانوي أشدّ ارتباطًا بما يحدث في المجتمع من المرحلتين الأخريين, فالنضج العقلي والاجتماعي والنفسي والثقافي لطلابه يجعلهم يتأثرون بما يحيط بهم أکثر من تأثر طلاب المرحلتين الابتدائية والمتوسطة؛ وبالتالي فهم معرضون أکثر من غيرهم للانحراف الفکري, ومن هنا وجب الاهتمام بهم والعناية بتحصينهم ليکونوا جدارا منيعا ضد من يحاول استمالتهم للفکر المنحرف.
وتؤکد إسماعيل (2014, 285) على ذلک حيث ترى أن المرحلة الثانوية من أهم المراحل التعليمية المهتمة بالحفاظ على الأمن والاستقرار, وتحقيق الأمن الفکري لهذه الفئة يجني ثمارها المجتمع بأکمله؛ ولذا فطالب هذه المرحلة إذا ما تم توجيهه الوجهة الصحيحة فإنه ينشأ نشأة سليمة تقي المجتمع من أمراض فکرية قد تؤدي به إلى الضياع.
وتعد مناهج اللغة العربية بالمرحلة الثانوية من المناهج الدراسية القادرة على التأثير في فهم الطلاب وإفهامهم, وتکوين القيم والاتجاهات الإيجابية لديهم, وتنمية المهارات العقلية والاجتماعية اللازمة لهم للعيش في مجتمع القرن الواحد والعشرين؛ وبالتالي تتکون لديهم الحصانة الداخلية التي تحول دون تأثرهم بالانحرافات العقدية والفکرية؛ ولذا أکدت بعض الدراسات: (خريف, 2006؛ الربعي, 1430ه؛ عليان, 2012) على الدور الکبير الذي تقوم به مناهج اللغة العربية في تعزيز الأمن الفکري ومواجهة الانحرافات الفکرية التي قد تصيب الطلاب, وذلک عن طريق تضمين تلک المناهج موضوعات حول الأمن الفکري وأنواعه وما يتعلق به من مفاهيم ومضامين.
ويذکر الحوشان (2015) أن الدراسات أشارت إلى أن المقررات الدراسية التي تقدم للطلاب غير حريصة على تحصينهم بالاعتدال والوسطية في التعامل مع غير المسلمين, کما أنها لم تؤکد للطلاب والطالبات على حقوق غير المسلمين المقيمين في بلادنا وحقهم في معاملتهم بالحسنى, کذلک لم تمنح قضية التعاطف مع الإرهابيين ترکيزا کافيا يضمن نبذ العنف والإرهاب, کما أنها لم تعط الطلاب إشارة واضحة لتحريم الإسلام قتل الأبرياء من المسلمين في العمليات الإرهابية والانتحارية. کما تأتي الدراسة الحالية استجابة لتوصية دراسة الجهني وحسين (2012) التي أوصت بضرورة إجراء دراسات علمية للتعرف على الدور الذي تسهم به المناهج التربوية في تعزيز الأمن الفکري لدى الطلاب الذين يدرسونها.
وفي ضوء ما سبق تبدو الحاجة ملحة للقيام بدراسة علمية تعرِّف بالأمن الفکري المنشود, وتوضح کيف تسهم مناهج اللغة العربية بالمرحلة الثانوية في تعزيزه عند الطلاب, ومن هنا فإن الدراسة الحالية تسعى إلى التعرف على إسهام مناهج اللغة العربية بالمرحلة الثانوية في تعزيز الأمن الفکري لدى طلاب المرحلة الثانوية بالمملکة العربية السعودية.