يقدم هذا المقال قراءة سريعة للتطور الذي عرفه مفهوم الوثيقة التاريخية لدى المؤرخين الغربيين وبالتحديد لدى الفرنسيين منهم، من مرحلة ما قبل المدرسة الوضعانية (النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي) إلى سيادة مدرسة الحوليات والتاريخ الجديد (النصف الثاني من القرن العشرين الميلادي)، وذلک بالوقوف عند المحطات المفصلية الکبرى التي طبعت تطور المفهوم ممارسة وتنظيرًا. وخدمة لهذه الغاية، فقد انطلقنا من إسطوغرافيات العصور القديمة والوسيطة ثم الحديثة لتسليط الضوء على التصور السائد حينها لمفهوم الوثيقة التاريخية بارتباطه بالغاية من الکتابة التاريخية نفسها، مع رصد لأهم التحولات التي عرفتها تصورات المؤرخين للوثيقة وللکتابة التاريخية خلال هذه العصور. لننتقل بعدها للنصف الثاني من القرن 19م، حيث سيعرف مفهوم الوثيقة التاريخية تطورا حقيقيا مع الوضعانيين الذين اعتبروا الوثائق بمثابة مادة أولية لاشتغال المؤرخ وحجر الزاوية في البحث التاريخي، بل وأولوها اهتمامًا خاصًا بلغ حد "التقديس". غير أن التصور الوضعاني للوثيقة لم يکن محط إجماع. فقد انتقد الکثير من المؤرخين نظرة الوضعانيين الضيقة تجاه الوثيقة، وحطهم من قيمة الوثائق غير المکتوبة. وکان من أشرس المنتقدين مؤرخو مدرسة الحوليات الذين انبروا منذ ثلاثينيات القرن العشرين للتصدي للتاريخ الوضعاني ولممارساته بخصوص مفاهيم الحدث والوثيقة. وعملوا في المقابل على تقديم تصور بديل يقوم على توسيع مفهوم الوثيقة التاريخية ليشمل کل ما يحمل أثرًا لماضي البشر، انعکس على إنتاجاتهم التاريخية وکتاباتهم التنظيرية الإبستمولوجية في حقل التاريخ التي جاءت أکثر شمولاً وانفتاحًا مقارنة بسابقاتها.

الاستشهاد المرجعي بالمقال:
زکرياء البدراوي، "قراءة في تطور مفهوم الوثيقة التاريخية من ما قبل الوضعانية إلى التاريخ الجديد".- دورية کان التاريخية.- السنة الثالثة عشرة- العدد الخمسون؛ ديسمبر 2020. ص 199 – 204.