وقد صِيغَ العُنوانُ من المُشکلةِ الَّتي يُعالجُها البحثُ، وهي مواقفُ اللُّغوييِّن والنَّحوييِّن والمُفسِّرين من الاستعمال الدَّلالي للفعلِ (جعل) بدلالاتهِ المُتعدِّدةِ في السِّياقاتِ القُرآنية المُختلفةِ، وما يتَّصلُ بمواقفهم من اختلاف مدارسهم النَّحويَّةِ والتَّفسيريَّةِ وانتماءاتهم الفکريَّةِ، کانَ لها تأثيرٌ في هذه المواقفِ.
فقد لفتَ نظري وأنا أقرأ في المصادرِ اللُّغويَّةِ بعامِّةٍ والتَّفسيريَّةِ بخاصَّةٍ اختلافُ العُلماءِ حول دلالاتِ الفعل (جعل) في القُرآن الکريمِ، فالمعنى الأساسي لها هو (صيَّر) المتعدِّيةِ إلى مفعولينِ. إلاَّ أنَّهُ توجدُ دلالاتٌ أُخرى لها منها: (صَنَعَ، خَلَقَ، سَنَّ، أوجَبَ، شَرَعَ، أمَرَ، حَکَمَ، وَضَعَ، سمَّى، ألقى، أَحدَثَ، أنشأَ، سَيَّرَ، اعتقد، أرسَلَ، رکَّبَ، مهَّدَ، ضيَّقَ، أضربَ، وَهَبَ، سَهَّلَ، أبدعَ، اضَّطرَ، أرسى، بَعَثَ... إلاَّ أنَّها تدورُ حولَ محورٍ واحدٍ هو " صَيَّرَ ": قال أبو العباس المقرِّي: ورد لفظ الجَعْل في القرآن على خمسة أوجه:
الأول: بمعنى " خلق " قال تعالى: [وَجَعَلُوا المَلَائِکَةَ] {الزُّخرف:19})، وقوله [وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا] {فصِّلت:10}، وقوله:[وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ] {الفرقان:62}
والثاني: بمعنى " بعث " قال تعالى: [وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا] {الفرقان:35}
والثالث: بمعنى " قدره " قال تعالى [وَجَعَلَ للهِ أَنْدَادًا] {الزُّمر:8} وقوله تعالى: [وَجَعَلُوا المَلَائِکَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا] {الزُّخرف:19}
وقوله تعالى: [قُلْ أَئِنَّکُمْ لَتَکْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِکَ رَبُّ العَالَمِينَ] {فصِّلت:9} أي تقولون.
الرابع: بمعنى " بَيّن " قال تعالى: [إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّکُمْ تَعْقِلُونَ] {الزُّخرف:3} أي: بَيَّنَّاه بحَلالِه وحَرَامِهِ.
الخامس: بمعنى " صَيَّرَ " قال تعالى: [وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَکِنَّةً] {الإسراء:46} أي: صيرنا، وقوله [أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ] {التوبة:19}، وقوله [وَجَعَلَ بَيْنَ البَحْرَيْنِ حَاجِزًا] {النمل:61}، وقوله: [إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا] {يس:8}( ).