ظهر جيل كامل في الأدب الإسرائيلي يعبر أصحابه عن رفضهم المطلق لواقع وطنهم فيما أطلق عليه: "أدب الاحتجاج"، دعاهم إلى ذلك التوجه الحلقة المفرغة من الحروب التي لا تنتهي، وانكشاف وهم المدينة الفاضلة التي رسمتها الصهيونية، فيما اتضح أنها لم تكن أكثر من سراب؛ من هذا الجيل كانت الشاعرة الإسرائيلية (شولاميت هارئيفين). ويمثل ديوانها (القدس المفترسة)، صفحة من الصفحات الأولى في السلسلة المبكرة لشعر الاحتجاج الإسرائيلي وذلك قبل البداية الفعلية لما أطلق عليه فيما بعد (أدب الاحتجاج)؛ حيث رسمت فيه شولاميت صورة للمدينة الحلم التي أصبحت كابوسا.
وعلى الجانب الآخر، كان لابد لصوت الرفض الفلسطيني أن يرد على الرفض الإسرائيلي؛ فكان ديوان الشاعر الفلسطيني محمود درويش (أحبك أو لا أحبك)، الذي يمثل سادس دواوين درويش الشعرية وبداية دخوله عالم قصيدة النثر؛ والديوان يحمل حالة مشابهة لما طرحته شولاميت هارئيفين من رثاء الذات الفلسطينية والتساؤل ذاته الذي طرحته شولاميت في بعض قصائدها في ديوان (القدس مفترسة) أي نوع من المدن تكون القدس؟ أهي المدينة المحببة أم أنها المدينة القاسية على أحبتها التي تجعلهم يدفعون ثمن حبها.
وهنا تصبح صورة المدينة ذاتها مرهونة بالأنساق الثقافية والفكرية والتجربة الذاتية التي تصنع وجدان الشاعر؛ فكلّ من شولاميت ودرويش قد عاشا في القدس؛ وكل منهما يرى فيها موطنه الذي يعاتبه ويعاتب فيه قسوة الظروف، لكلّ منهما في القدس حلم ضائع، وحبيب غيّبته الحروب؛ وهو ما يتيح لسيمياء الصورة أن تلعب دورها في الدرس الدلالي، لتصبح القصيدة ينبوعا يتفجّر بالدلالات، وتصير القدس رمزا متعدّد الأوجه.