يقول هرمس ( تحوت ) " أن مصر هى صورة السماء بل هى مقر السماء ؛ حيث تترکز فيها کل القوى ، و الحقيقة أن أرضنا مصر هى معبد الکون[1] " .
کما ذکر هيرودوت قبل تلک العبارة بنحو ستة قرون مقولته الشهيرة بأن المصريين أکثر شعوب الأرض تديناً[2] ؛ و يعد هذا البحث محاولة لإلقاء بعض الضوء على فکرة التقديس التى نالها بعض العامة من الشعب خلال العصر المتأخر[3] ، حيث برزت تلک العبادات بشکل مکثـف ، مع ميل لإبراز- وصل لحد التعصب - السمات ، و الأفکار المصرية الخالصة فى فترة اشتدت ظلمتها مع توالى النکبات السياسية ،والعسکرية و الاقتصادية على مصر ؛ فنجد فى البداية إنه مع ضعف هيبة الملکية - التى حافظت ظاهرياً على مکانتها - فقد حظىّ بعض الأفراد ممن تمتعوا بقوى خاصة بوصولهم إلى مرتبة قد يفضل أن نطلق عليهم "الأولياء" و هو التعبير الذى أطلقه عليهم منذ البداية " D. Wildung "[4] إذ هو فى رأى معبراً بدقة أکثر عن الفکر المصرى ، بعکس لفظ "إله" الذى يطلقه الدارسين الأجانب دون فهم لحقيقة النفسية المصرية ؛ إذ أدرک المصرى القديم أن هناک رباً أعلى متربعاً على عرشه بعدما خلق الکون ، و أقر الأقوات ، و ناصر الضعفاء و أقتص للمظلوم[5] ، و ربما أن المصرى قد شعر بمدى قدسية المعبود ، و تساميه فأراد صورةً أکثر قرباً لخياله تکون الوسيط إلى الرب الأعلى فاختار الملک الذى سرعان ما تسامى هو الآخر ، عندها لجأ إلى الأکثر قرباً ، و التصاقاً به و هم مجموعة من البشر جعلهم نظراً لمکانتهم الخلقية و الأدبية " أولياء " يرعون مصلحته ، و يکونون صورة حقيقية للوساطة بين الرب الأعلى و البشر ؛ و يتقرب عن طريقهم للمعبود و الملک فى آن واحد ؛ ويبدوا أن هؤلاء الأولياء - القديسين - لم يصلوا إلى المرتبة الفعلية للأرباب ولکن تم تقديسهم خلال فترة زمنية معينة .
[1] J. Brashler ; [et al.], Nag Hammadi codices, VI, ed., Douglas M. Parrott. Leiden : Brill, 1979, 70,5-10.
هرمس : هو المسمى الذى أطلقه اليونان على المعبود جحوتى رب الأشمونين ، منعوتاً بمثلث العظمة کناية عن فائق علمه و عظيم مکانته ، و قد کانت له تعاليم دينية صوفية تعد الأساس الذى أتخذه کل من الفلاسفة المعروفين " أفلاطون و فيثاغورس" :
H-J.Thissen, Herms(Trismegistos), in: LÄ II,1977, 1133-35. و قد أعترف بفضل تحوت المعلم المصرى عدد کبير من مفکرى عصر النهضة الأوروبى ؛ و منذ العثور على المخطوطات الهرمسية فى الفيوم 1930 و فى نجع حمادى ، و التى کتب معظمها باليونانية ، و القليل منها بالقبطية ؛ و إن حوت تعاليم موغلة فى القدم ، و قد تمت العديد من الدراسات ، و الترجمات لعل من أهمها الترجمة المذکورة أعلاه ؛ و قد سبق هذه الدراسة بعامين اللغوى الفرنسى لويس مينار بدراسة هامة عن تاريخ الهرمسيات أتبعها بترجمة جانب من تلک المتون ، و قد ظهر حديثاُ ترجمة عربية لهذا الکتاب هى :
لويس مينار ، هرمس المثلث العظمة أو النبى إدريس ، ترجمة عبد الهادى عباس ، دمشق 1998 ؛ و أنظر أيضاً : تيموثى فريک و بيتر غاندى : متون هرمس حکمة الفراعنة المفقودة ، ترجمة عمر الفاروق عمر ، المجلس الأعلى للثقافة العدد 357 ، القاهرة 2002 .
[2] T.E.Page, Herodotus II, translated by A.D.Godley, Cambridge 1952,319, § 37.
[3] يوجد إرهاصات لتأليه بعض البشر على الأقل منذ الأسرة السادسة حيث قدس کل من کاجمنى ، و إيسى ، و حقا إيب ؛ و من الملاحظ أن ذلک التقديس لم يدم کثيراً ربما حتى عصر الدولة الوسطى ، راجع : M.Alliot, in: BIFAO 37, 1937-38, 145ff; L.Habachi, in: AV 33, 1985, 161ff; A.Sadek, in: HÄB 27, 1987, 276.
[4] D. Wildung, Egyptian Saint , Deification in Pharaonic Egypt, New York 1977,31ff.
و قد أکد الباحث المصرى لؤى محمود تلک الفکرة التى تتبعها من بداية ظهرها و حتى نهاية الدولة الحديثة ، و يؤکد على أنه لم يکن تأليه بالمعنى المفهوم بل هو معاملة هؤلاء المتميزين باعتبارهم أولياء بالفعل و ذلک فى رسالته للماجستير :لؤى محمود سعيد ، الفکر الشسعبى الدينى فى مصر القديمة " دراسة تحليلية " رسالة ماجستير غير منشورة ، القاهرة 1999 .
[5] عبد العزيز صالح : الشرق الأدنى القديم ، جـ1 ، مصر و العراق ، القاهرة1982 ، صـ 229-331.