لقد شاع بين عامة الناس و الأجانب إطلاق اسم القصبة على مدينة الجزائر، و في الحقيقة ما القصبة إلا جزء من المدينة تمثل المنطقة العلوية للمدينة. تقع المدينة في الجهة الغربية للساحل الجزائري المطل على البحر المتوسط،تظهر من البحر کأنها ثوب أبيض على سفح جبل. تتميز بتضاريسها الوعرة و التي تتنوع ما بين تلال و هضاب و انحدارات حادة، لذلک فضل سکانها الاستقرار بالمنطقة الساحلية الضيقة[1]. مرت مدينة الجزائر عبر مراحل تاريخية متنوعة، يمکن حصرها فيما يلي:
العصر الفينيقي:
کانت مدينة الجزائر قديما عبارة عن قرية تسمى في لسان البربر "آرغل" أي المکان المستور العميق، و لم يطلق اسم الجزائر على الإقليم کله إلا منذ العصر العثماني ، أي خلال القرن السادس عشر، فقد عرفت قبل ذلک عند العرب باسم المغرب الأوسط،[2]أما فيما يخص نشأة المدينة فقد اختلفت الآراء حول ذلک؛ فمنهم من يرى أن الفضل يرجع إلى السکان قدماء لشمال إفريقيا، و الرأي الأخر يذکر أنهم اليونانيون و البعض يرجح الفينيقيون، و هذا الرأي يعتبر الأصح إلى حد الآن بناءا على الدلائل الأثرية،لقد تم العثور على قطع نقدية ضربت بين 150 و50 ق.م، کما تم من خلالها تحديد اسم المدينة "إيکوسيم" و هذا إسم فينيقي الأصل حرف فيما بعد إلى اللغة اللاتينية في الفترة الرومانية فأصبح إيکوسيوم،کما يظهر من خلال النقوش أنها تأسست قبل القرن الثاني ق.م، أي في الفترة التي تشکلت فيها المماليک النوميدية، کما يعتقد أنها تأسست قبل هذا التاريخ بقرون عديدة من طرف الفينيقيين، فمن المعروف عنهم أنهم کانوا بحارة و تجار يجوبون سواحل البحر المتوسط و کانت لديهم محطات تجارية على طول الساحل أي منذ حوالي القرن التاسع قبل الميلاد (تأسيس قرطاجة في تونس) و لا يستبعد أنهم أقاموا على ساحل الجزائر محطة بحرية لتجارتهم نظرا لما يتمتع الموقع بالمرفأ الطبيعي لرسوا السفن[3]. کما ساعدت هذه الاکتشافات في تحديد أبعاد المدينة الفينقية بالتقريب، إذ أنه ليس من السهل تحديد بدقة حدود مدينة ترجع إلى عصور قديمة جدا، و تعاقبت عليها مراحل عديدة غيرت من منشآتها، و لذلک يعتقد أن استقرا السکان کان في المناطق التي تقل فيها الانحدارات الشديدة أي أن الأحياء السکنية کانت قريبة من الميناء حتى تکون المراکب على مرأى من أصحابها و هذا ما يتفق مع طابع المدن الفينيقية[4].
العصر الروماني:
بعد سقوط مدينة قرطاجة سنة146ق.م بدأ الزحف الروماني على شمال إفريقيا، و أصبحت الجزائر خاضعة للإمبراطورية الرومانية منذ سنة 40م[5]، و خلال القرن الأول ميلادي منحت لقب مستعمرة لاتينية و هذا يدل على أهميتها ، و بدون شک کباقي المستعمرات الرومانية عرفت المدينة تطورا و توسعا عمرانيا هاما أشارت إلى آثاره فيما بعد المصادر العربية[6]و ما هو مؤکد أن المدينة کانت أکثر توسعا مما کانت عليه في الفترة الفينيقية، وعلى حسب الدراسات التي قام بها دوفو، فيذکر أن الجهة الأخرى لخليج الجزائر کانت توجد مدينة تامنفوست[7] بينما الأراضي الواقعة بين هاتين المدينتين أقيمت العديد من المباني ما تزال آثارها واضحة[8].
خلال القرن الخامس ميلادي، استولى الوندال على روما فسقطت الإمبراطورية، و توالت بعدها مستعمرات التي أخذت تسقط الواحدة تلو الأخرى و لم يمض إلا بضعة شهور حتى احتلوا مستعمراتها الواقعة في شمال إفريقيا و لم يدم حکمهم إلا قرن من الزمن حتى تمکن البيزنطيون من استرجاع المنطقة سنة 533م[9]،و لکن تعرضت السلطة البيزنطية إلى اضطرابات بسبب ثروات داخلية و في هذه الأثناء ظهرت قوة أخرى مع الدين الجديد و هي الفتوحات الإسلامية، و بفضل سياسة الفاتحين المسلمين التي امتازتبالاستقامة و العدل و المساواةاعتنق العديد من السکان المحليين الدين الجديد فأصبحت المنطقة تحت ظل الدولة الإسلامية[10].
العصر الإسلامي:
يرجح أن دخول المسلمين لمدينة الجزائر کان ما بين سنتي 88-95هـ/706-713م على عهد موسى بن نصير، و لم يجدوا بالمدينة إلا الأطلال، و هذا بسبب الاضطرابات التي مرت بها خلال العصرين الوندالي و البيزنطي، و قد أهملها المسلمون الفاتحين نظرا لعزوفهم عن سکن المدن الساحلية[11]و لم تظهر أهميتها إلا في عصر الدولة الصنهاجية أي حين قام بلکين بن زيري بن مناد بتأسيس مدينة الجزائر المنسوبة إلى بني مزغنة[12]، و يظهر أن اختيار بلکين لهذا الموقع لتأسيس المدينة دليل على وجود العديد من مواد البناء التي أعيد استعمالها، فبدون شک بعد هجرة المدينة بقيت بعض الآثار مبعثرة في المنطقة، کما يحتمل أنه لا يمکن أن تقام مدينة في مکان خال بصفة کاملة من السکان فجمال المنطقة واعتدال جوها و وجود ميناء طبيعي بساحلها قد يکون جلب العديد من الأسر[13] و ربما من بين هؤلاء السکان قبيلة بني مزغنة التي کانت تقطن المناطق المجاورة لها، و التي عاشت في القرنيين الأولين للفتح الإسلامي مع العائلة العلوية و واستقرت بين الآثار الرومانية و تمثلت أعمال بلکين في تمصيرها، فقد أشار ابن خلدون حين تحدث عن عمران أهل إفريقيا و المغرب بأن أکثرهم بدويا يسکنون الخيام سواء رحل أو مستقرين، لذلک اضطر بلکين إلى تخطيط المدينة للاستقرار السکان، و نظرا لطول الفترة الزمنية التي بقيت فيها المدينة مهجورة اختير اسمها نسبة إلى الجزر التي تقع أمام المدينة على بعد رمي سهم منها و القبيلة التي بالمنطقة، فأطلق عليها جزائر بني مزغنة[14].
أما فيما يخص تأريخ التأسيس فبناء على وفاة الزيري بن مناد سنة 360هـ/970م حسب ابن خلدون و الذي دام حکمه 26 سنة فبدون شک في الفترة الأولى من حکمه أمر ابنه بتأسي المدينة[15].
1عبد القادر حليمي، مدينة الجزائر نشأتها و تطورها قبل 1830، الطبعة الأولى، 1972.ص10
[2]عبد الرحمان جيلالي، تاريخ الجزائر العام، الجزء الأول، ديوان المطبوعات الجامعية، 1995، ص23.
[3]L.Leschi,les origines d'Alger, conférences faite le 16 juin 1941,p8
[4] عبد القادر حليمي، نفس المرجع، ص183.
[5]S.Gsell; les monuments antiques de l"Algerie,T1,Paris, fontemoring 1901,p75.
[6]L.leschi; op.cit,p9.
[7]حاليا برج البحري و تبعد عن الجزائر العاصمة بحوالي 35کلم.
[8]A.Devoulx,"Alger étude archéologique et topographique sur cette ville ,aux époques romaine,(icosium) arabe,(Djezair Beni Maz'renna) et turque(el Djazair)", Dans: la Revue Africaine, Année 1875; vol19,p499.
[9]Ibid,p500.
[10] عبد الرحمان الجيلالي، المرجع السابق، ص139.
[11]رابح بونار، مدينة الجزائر تاريخها و حياتها الثقافية، ضمن مجموعة: تاريخ المدن الثلاث..... ص218
[12]عبد الرحمان ابن خلدون، کتاب العبر و ديوان المبتدأ و الخبر في أيام العرب و العجم و البربر و من ذوي السلطان الأکبر، المجلد السادس، دار الکتب، بيروت، لبنان، 1992، ص182.
[13]H.D de Grammont, Histoire d'Alger sous la domination turque(1515-1830); Ernest lerouxediteur; Paris 1887;p4
[14]A.Devoulx,op.cit,p502.
[15]A.Devoulx;op.cit,p507