تأتي قيمة العدل من أنه اسم الله الأعظم، والقاضي يقتبس قيمته من أنه يمثل ظل الله - العدل – في الأرض، وبالقضاء يقام العدل، وهو أمر الله سبحانه وتعالي لخلقه منذ أن خلق الکون؛ فبالعدل تقوم الممالک بين کل الأحياء في عالم الإنسان والحيوان، وتقوم عليه الحضارات، وتنتهي أيضاً الحضارات بالظلم ومن ثم فإن العدل هو أساس الملک.
حيث يقول الله سبحانه وتعالي مخاطباً الناس کافة:
ويقول أيضاً مخاطباً عباده المؤمنين:
ولذا فالأمر جلل خطير، ويؤکد هذا الخطر ما رواه الأصبهاني ﴿~﴾ عن سيدنا أبي هريرة ﴿t﴾ فيما رواه عن النبي ﴿H﴾ حيث قال: ﴿يا أبا هريرة، عدل ساعة أفضل من عبادة ستين سنة؛ قيام ليلها وصيام نهارها، وجور ساعة في حکمٍ أشد وأعظم عند الله عز وجل من معاصي ستين سنة﴾، ولهذا قال الإمام السرخسي ﴿~﴾ حيث قال: ﴿اعلم أن القضاء أقوي الفرائض بعد الإيمان بالله تعالي، وهو أشرف العبادات وبه أمر کل نبي مرسل؛ حتى خاتم الأنبياء﴾([1]).
ومن هنا تأتي قيمة القضاء حيث بوجوده توجد الحياة، وبعدمه العدم ذاته، فوجود القضاء في المجتمع الإنساني هو الوسيلة المثلي لتحقيق مصالح الناس؛ فبه تحمي الحقوق، وتصان الأعراض عن الانتهاک ويحفظ الدم والنسل، ولکي يتحقق العدل في دنيا الناس لابد وأن يستقل القاضي عن أي مؤثرات خارجية من المجتمع المحيط به، والبيئة التي يعيش فيها، والبيئة الداخلية في ذاته وفي مکنون ضميره حيث يجب عليه أن يُوقي ضغائن نفسه؛ فلا يقضي القاضي وهو غضبان ... الخ.
ومن هنا تأتي أهمية استقلال القضاء، والسؤال الذي يجب علي أن أطرحة في مقدمة هذه الدراسة قبل أن أتحدث عن استقلال السلطة القضائية؛ ما هو الجو والظروف التي يمکن أن يعيش فيها هذا الاستقلال ؟!
ولعلي أردت أن أنفض الغبار علي ذلک المصطلح العظيم - وهو استقلال السلطة القضائية – حيث لا مجال للحديث عنه خاصة في نظام لا کرامة فيه للإنسان، ولا قيام فيه للحريات، ولا سيادة فيه للقانون، ولا يُعترف فيه بکيان القضاء المستقل، ولذا ترددت کثيراً أن أکتب عن هذا الموضوع؛ رغم اختمار الفکرة في عقلي واعتصارها في عميق وجداني قبل ثورة 25 يناير و30 يونيو أما وأن فُتح باب الحريات، ولذا فقد وجدتها فرصة أن أتقدم بنواة هذه الدراسة في المؤتمر العلمي السادس بکلية الحقوق جامعة بنها في الفتــرة من 7 إلي 8 إبريل لعام 2012؛ تحت عنوان "رؤية مستقبلية لدستور مصر الجديد“، وکان لا يزيد في ذلک الوقت عن زهاء مائتي صفحة تقريباً؛ لعلي أجد فرصة أتقدم من خلالها بأطروحة عن استقلال حقيقي للسلطة القضائية، والتي بنورها تنمو وتترعرع الحريات وتتعافي الديمقراطيات؛ حيث أن الدساتير لا تؤسس علي فکرة الشخصية الحرة والفردية وإنما علي أساس الإنسان کقيمة مندمجة في ظروف بيئته وفي التنظيم الاجتماعي لنفس ذلک الإنسان، وکنت في باکورة من طالبوا باستقلال النيابة العامة، والنيابة الإدارية؛ لأن القاضي الذي يبدأ حياته مستقلاً، ويعرف معني الحرية في اتخاذ وإصدار قراره لا يستطيع أن يحرم منها عندما يشتد عوده، ويصدر أحکامه لأنها تکون بين جوانحه إذا حرم منها خر صريعاً مستشهداً من أجلها.
3) الإمام/ محمد بن أحمد بن أبي بکر – شمس الأئمة – السرخسي – المبسوط – ط2 – 1313هـ - دار المعرفة للطبع والنشر – بيروت – ج16 – صـ59.