الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وبعد.
فإنه لا يخفى على کل دارس وباحث في ميدان العمل النقدي والبلاغي أن البلاغة قوامها التحليل الصائب، والنقد الناجح، بهما تؤتي البلاغة ثمارها، ويظهر رواؤها من تحقيق الجمال والجلال.
وإذا أضيف جانب الموازنة مع النقد والتحليل کانت البلاغة أکثر إنماء وإرواء.
وإذا اهتم الدارسون بهذا الجوانب الثلاثة تحقق للبلاغة من التأثير المقنع الذي ترسخ به المعاني في النفوس وتتمکن في الأذهان في صورة مقبولة ومعرض حسن.
وکان القدماء من الحصافة بمکان حين التفتوا إلى هذه الأهداف، فکانت البلاغة عندهم ذوقا أصيلا، ونسما عليلا، ينعش أرواحهم، ويمتع عقولهم، ويطرب نفوسهم.
وفي کتابات الأوائل کالجاحظ وأبي هلال وابن رشيق والآمدي والقاضي الجرجاني والإمام عبدالقاهر ما يکشف عن هذا الذوق الأصيل.
ويوم أن انتقلت البلاغة من هذا الروض الخصيب والتحليل الممتع والموازنة الدقيقة إلى القواعد الجامدة، والقوالب الخشنة اغبرّ وجهها، وأسن ماؤها، فاهتم أکثرهم بالتفريعات، وانشغل جلهم بالجزئيات ، فکثرت المماحکات اللفظية، والتفصيلات المنطقية على نحو ما نجده عند أصحاب الحواشي والتقريرات، وإن کان يحسب لهذا الاتجاه حفظهم للقاعدة في زمن کادت تنمحي فيه العلوم لکن الأبقى أثرا، والأجدى نفعا أن تتخذ القاعدة مطية للوصول إلى ذوق يسري وجمال يذوب في أجسام النصوص على نحو ما کان معروفا عند القدماء.