لقد تناولت في هذا البحث المسئولية الأخلاقية وعناصرها عند القديس أوغسطين، وقد بينت مدى حرصه على التوفيق بين حرية الإرادة الإنسانية، وفاعلية القدرة الإلهية المطلقة. إذ رأى أوغسطين أنهما لا يتعارضان فإن الله الذي وهبنا العقل والإرادة لم يسلبنا حرية الاختيار، فإن حکمته تعالى تريد أن يکون خضوع کل شيء للقدرة الإلهية طوعاً واختياراً وليس قسراً. - فحين محاولته للتوفيق کان يقع في دور لا مخرج منه فدائرته نقطة بدايتها ونهايتها الله. فالفعل الإنساني الحر هو ثمرة لتعاون مشترک بين العقل والإرادة وکلاهما من عند الله ويجب أن يعملا وفقاً لتعاليم وأوامر الله. - وقد حاول عند عرضه لمفهوم الخطيئة أن يوفق بين المفهوم الديني الخالص وبين الحرية الإنسانية، ذلک أن الخطيئة الأولى طبقاً للمفهوم الکاثوليکي قد أضعفت الفطرة الإنسانية نحو الخير وجعلته مهيأ للوقوع في الخطيئة على نحو حتمي، إلا أن ذلک لا يمحو صورة الله في الإنسان وإنما يمکن استعادتها واستردادها وذلک بالتمسک بالعقل الذي هو هبة إلهية ولذلک فإن موافقة العقل لطبيعته هي موافقة للعقل الإلهي. وهو بذلک يجعل الطريق مفتوحاً لإکساب الفضائل، لکن ذلک لا يکفي بل لابد من إشراق النور الإلهي أي نور الحکمة والنعمة الإلهية! - وعن تناول أوغسطين لدور النية وعلاقتها بالفعل الأخلاقي تبينا أنه لم يتعد المفهوم الديني، فالنية هي حرکة العقل والإرادة أو الدافع الخفي للقلب والذي يجعله يتجه نحو موضوع معين. ولذلک فالنية تقع عليها تمام تقييم الفعل حسناً أو قبيحاً بل وعليها يحاسب الإنسان ثواباً وعقاباً ثم ينتهي أوغسطين إلى قضيته الأساسية وهي التوفيق طالما أن النية يجب أن تحدد غايتها النهائية، أي أن تکون موجهة نحو الله فلا يزيد إلا ما يريده الله وبذلک تطابق الإرادة الإنسانية الإرادة الإلهية. - وقد حاول أوغسطين جاهداً أن يوفق بين مضمون فکرة القضاء والقدر، وحرية الإرادة الإنسانية فما القدر عنده إلا العناية الإلهية التي شملت الکون بجميع مکوناته بما فيها أفعال الإنسان التي يجب أن تعود إلى الله تعالى خالقها ومنظمها فلا شيء يخرج عن علم الله السابق الأزلي أي أن أفعالنا علل وأسباب معينة من الله لإصدار بعض المعلولات، فإننا من جملة الأسباب التي لابد وأن تعود إلى مسبب الأسباب الأول الله ولا يعني هذا نفي حرية الإرادة. فعلم الله أزلي واختيارنا حادث، وقد ظهر إخلاص أوغسطين لعقيدته الکاثوليکية عند مناقشته للانتخاب الإلهي، والتي هي في الحقيقة امتداد لقضية القضاء والقدر، طالما أن الانتخاب هو العلم السابق بأنعمات الله والتي وجهت البعض إلى الخلاص الأبدي والبعض الآخر إلى الهلاک الأبدي، بهذا الانتخاب قد تم منذ الأزل، وما نحن إلا منفيين لهذا الانتخاب. لقد وقع أوغسطين في دور لا مخرج منه، فعلى الرغم من تأکيده بأن الانتخاب أمر مؤکد لأنه تجسيد للعناية الإلهية وهو أمر سابق في علم الله حتى إن الله تعالى حدد مسبقاً عدد من انتخبهم بل إنه قد أعد لکل منهم الوسائل والأعمال الخيرة التي سيقومون بها ليحققوا خلاصهم، إلا أن أوغسطين يؤکد أن ذلک لا يلغي حرية الإرادة الإنسانية. وبعبارة أخرى إن البشر الذين يستحقون الخلاص ما کانوا ليستحقونه أصلاً لولا أن الله اصطفاهم مسبقاً بفضل لطفه ليکونوا کذلک أي أن إرادة الله تسبق إرادة هؤلاء وتدفعها دفعاً. وبذلک انتهى أوغسطين إلى حقيقة أن إرادة الله هي الإرادة الحقة!