لقد روى لنا التاريخ أن البصريين هم الذين وضعوا علم النحو واستنبطوا قواعده، وتعهدوه بالرعاية قرابة قرن من الزمان تقريبًا، کانت فيه الکوفة منصرفة عنه بما شغلها من رواية الأشعار والأخبار، والميل إلى التندر بالطرائف من الملح والنوادر، ثم تکاتف الفريقان على استکمال قواعده، واستحثهما التنافسُ الذي جَدَّ بينهما، حتى خرج هذا العِلمُ تام الأصول کامل العناصر.
وعندما رأس أبو العباس ثعلب علماءَ الکوفة وأبو العباس المبرد علماءَ البصرة, انتقل هذانِ العالمانِ للتعليم في بغداد حاضرة العِلم والحضارة آنذاک, فاشتدَّ بينهما الصراع والتنافس، وکثرت المناظرات, مما جعل الدارسين يُقْبلون عليهما, ويأخذون عنهما معًا، ثم يتخيرون من هذا وذاک ما يراه کُلُّ واحد مناسبًا لتفکيره واتجاهه واجتهاده ؛ فأدّى ذلک إلى نشأة مدرسة نحوية جديدة، سُمِّيت بالمدرسة البغدادية، اعتمد أصحابُها على مبدأ الانتخاب والاختيار من آراء مدرستي البصرة والکوفة معًا، والاجتهاد في استنباط آراء جديدة.
ولقد عُدَّ ابنُ الشجري (ت542هــ) واحدًا من أشهر نحاة المدرسة البغدادية في القرن السادس الهجري، فتنوعت آراؤه بين البصرية والکوفية، فتارة يميل إلى رأي نحاة البصرة فيرجحه ويأخذ به، وتارة يعتمد رأي نحاة الکوفة ويرجحه، أو يجيزه مع غيره من الآراء، وتارة يجتهد فيخرج برأي جديد، ويقف هذا البحث على طرف من ملامح موافقة ابن الشجري لآراء نحاة الکوفة، سواء بذکره الصريح لدلالات الموافقة والاستحسان أو بالسکوت الدال على الإجازة وعدم الاعتراض. وقد اعتمد الباحث على المنهج الوصفي التحليلي، ورَتَّب المسائل المطروحة حسب ترتيب ألفية ابن مالک، وختم بمسائل حروف المعاني مرتبة ترتيبًا ألفبائيًّا حسب اسم الحرف، وليس اسم المسألة، وذُيِّلَ البحثُ بقائمة للمراجع مرتبتةً ترتيبًا ألفبائيًّا حسب عنوان الکتاب. وقد توصلت الدراسة إلي النتائج التالية:
1- هناک فرقٌ واضحٌ بين المذهب النحوي والنزعة المذهبية؛ وذلک لکون المذهب هو المنهج المتبع في دراسة المسائل وتناول الآراء، والنزعة هي الصورة الناتجة عن هذا المنهج؛ وعليه يمکن القول بأن المذهب البغدادي هو منهج نحوي جديد قائم على الانتخاب والترجيح بين آراء نحاة البصرة والکوفة معًا، إلا أنه قد غلبت عليه نزعةُ الميل إلى آراء البصريين.
2- يُعَدُّ ابنُ الشجري واحدًا من أبرز علماء المدرسة البغدادية في القرن السادس الهجري؛ وذلک لاعتماده على منهج الانتخاب والاختيار بين آراء نحاة البصرة والکوفة.
3- قد غلبت على ابن الشجري النزعة البصرية؛ وذلک لکثرة ترجيحاته واختياراته لآراء نحاة البصرة مقارنة بترجيحاته لآراء الکوفيين.
4- على الرغم من غلبة النزعة البصرية على ابن الشجري إلا أنه لم يمتنع عن الأخذ بآراء الکوفيين وترجيحها وإجازتها في أحيان ليست بالقليلة.
5- يغلب على منهج ابن الشجري الاعتماد على شواهد القرآن الکريم.
6- اعتمد ابن الشجري کثيرًا على إعمال القياس وإجراء العلة.