الفساد ليس ظاهرة جديدة طرأت على المجتمعات الحديثة في الآونة الأخيرة ، بل إن المجتمعات القديمة قد عانت منه أيضاً معاناة شديدة، فمنذ ما يقرب من 2500 عام أشارت إحدى المخطوطات الهندية إلى أثر الفساد على الإدارة الاقتصادية وناشد کاتبها الحاکم العمل على محاربة هذه الآفة، وفي العصور الوسطى أدرک المفکر الإيطالي دانتي Danteالآثار السلبية للفساد ورأى أن المکان الطبيعي للفاسدين والراشين هو الدرک الأسفل من النار، وفي العصر الحديث جاء النص في الدستور الأمريکي صراحة على أن الرشوة هي إحدى الجريمتين اللتان تبرران عزل الرئيس الأمريکي من منصبه. ([1])
کما أن الفساد ليس ظاهرة محلية أيضاً، وإنما هو ظاهرة عالمية تختلف حدتها من بلد لآخر ومن مجتمع لآخر، وأشد أنواع الفساد ضرراً ذلک الذي يقع في الدول النامية وخاصة الدول التي تفتقر إلى وجود المنظمات غير الحکومية، وتلک التي لم تنضج فيها بعد مؤسسات المجتمع المدني، وأيضاً التي تکون فيها مثل هذه المؤسسات محظورة، فهذه المنظمات والمؤسسات تساعد کثيراً على کشف الآثار السلبية للفساد کما هو الحال في الدول المتقدمة.
ومع ذلک فإن معظم الدراسات التي تناولت ظاهرة الفساد بالدراسة والتحليل حتى بداية الثمانينات من القرن الماضي کانت تبحث في الجوانب الاجتماعية والثقافية والسياسية وغاب عنها تناول الجانب الاقتصادي لتلک الظاهرة، ولذلک يرى"Tanzi" أن دراسة "اقتصاديات" الفساد لم تلق الاهتمام الکافي من قبل الاقتصاديين الذين تجاهلوا الآثار الاقتصادية المترتبة على الفساد([2]) .
ويرجع أحد الباحثين ([3]) تأخر الاقتصاديين في تناول ظاهرة الفساد بالدراسة والتحليل إلى سببين رئيسيين هما:
الأول: أن معظم الاقتصاديين لم يتفقوا على المقصود بمصطلح "الفساد"، وذلک لأن هذا المصطلح يستخدم للإشارة إلى دائرة واسعة من الأنشطة والممارسات التي تتراوح بين الأشکال البسيطة لإساءة استخدام السلطة العامة من قبل صغار موظفي الحکومة إلى قيام بعض القادة السياسيين بالاستيلاء على أواستغلال الموارد الاقتصادية لبلادهم لتحقيق منافع خاصة، الأمر الذي يجعل من الفساد مصطلحاً فضفاضاً يصعب على الباحثين تحليل الجوانب الاقتصادية له.
الثاني: صعوبة استخدام النماذج الاقتصادية لتحليل ودراسة الأسباب والآثار الاقتصادية لظاهرة الفساد.
وإزاء ما ترتب على الآثار الاقتصادية السلبية لظاهرة الفساد وما أدت إليه من عرقلة خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية في أغلب دول العالم الأمر الذي لم يجعل للاقتصاديين أي خيار في تناول تلک الظاهرة بالدراسة والتحليل.
ولما کان للاقتصاد الإسلامي من تفرد في وضع الحلول والتدابير المناسبة في حل الکثير من المشاکل والمعضلات الاقتصادية، کان من الواجب أن أبين وجهة نظر الاقتصاد الإسلامي في هذه الظاهرة وأهم الضوابط والحلول التي يقترحها لعدم تفشي هذه الظاهرة في المجتمع ومحاولة القضاء عليها من خلال البحث الحالي.
([1]) Rose-Ackerman، Susan: Corruption and Government: causes، Consequences، and Reform، Cambridge University Press، U.K,1999
منقول عن:د. کمال أمين الوصال:الفساد، دراسة في الأسباب والآثار الاقتصادية ، مجلة التجارة والتمويل، کلية التجارة، جامعة طنطا، مصر، عدد 2، 2008م، ص 155.
([2]) Tanzi، V. "Corruption: Arm's Length Relationships and Markets"، in Granulose Florential and Sam Peltzman(eds.) The Economics of Organized Crime، Cambridge University Press، U.K,1995، pp161-180.
([3]) د. کمال أمين الوصال: الفساد، مرجع سابق ص 156.