1- خلافات العلماء الطويلة في باب الأطعمة قائمة على الاجتهاد والقياس فيما لا نص فيه منها، وأرى أن جُلَّ اجتهاداتهم هذه کانت قائمة على فکرة الاحتياط في تغليب جانب الحرمة على جانب الحِلِّ، دون أن يکون هناک أدلة شرعية ظاهرة وقوية، وهو ما بَرَّر حالة الارتباک في الآراء داخل المذهب الواحد أحياناً، ولعل السبب الأکبر في ذلک من وجهة نظر الباحث هو غياب المعلومات والحقائق المؤکدة حول کثير من الصور الفقهية محل النظر، وأحسب أن فقهاءنا لو کانوا في زماننا هذا لاکتفوا بأصل الضرر بمعناه الواسع مرجعاً في تحديد ما يحل وما يحرم فيما لا نص فيه، ولأوکلوا هذه المهمة إلى أهل الذکر من المتخصصين المأمونين الثقات، ويکفينا دليلاً على ذلک أن الحنفية لم يبيحوا من صيد البحر إلا السمک خاصة؛ فهم قد اعتبروا ماعدا السمک من الخبائث -کالجمبري والاستاکوذا على سبيل المثال- من الخبائث([1])، وقد أثبت العلم الحديث ما فيهما من قيمة غذائية عالية، وهو الأمر الذي يتبين معه أن العلم الحديث ينبغي أن يکون له الدور الأکبر في الحکم على بعض الأطعمة حلاً وحرمة؛ لأنه الأقدر على معرفة طيبها أو خبثها.
2- بناء على ما تم ترجيحه في البحث بشأن الاستحالة والغلبة يمکن الحکم بطهارة کثير من الأغذية التي تختلط بها النجاسة المستحيلة أو المغلوبة في هذه الأيام؛ بناء على ما يکون عليه حال هذه الأغذية من طيب وعدم ضرر، وهو ما يرفع الحرج عن کثير من المسلمين الذين لا يجدون في کثير من الأوقات أو الأماکن غير هذه الأطعمة.
3- ينبغي أن نفرِّق بين النجاسة التي تختلط بالأطعمة بعد استحالتها، والنجاسة التي تختلط بها قبل الاستحالة، بمعنى أن النجاسة إذا استحالت ثم خُلِطَت بالأغذية ينبغي أن يکون حکمُها أخف من تلک التي خلطت قبل الاستحالة، وجدير بالذکر أن معظم النجاسات المختلطة بالأغذية في عصرنا الحالي من نجاسات النوع الثاني، ولذا: فهي يجتمع لها سببان للتخفيف، الاستحالة والغلبة، وهو ما يهوِّن من شأنها إن شاء الله تعالى، اللهم إلا إذا ثبت أن لها أضراراً صحية، ففي هذه الحالة تکون حراماً، لا للنجاسة بل للضرر.
4- إذا ثبت أن للمشقة والعسر وعموم البلوى تأثيراً في حکم النجاسة ومِن ثَمَّ في حکم الأطعمة المختلطة بها؛ فينبغي أن يُفتى المسلمون المقيمون في بلاد غير إسلامية بِحِلِّ کثير من الأطعمة إذا لم يجدوا لها بديلاً، أو وجدوه وکانت تکلفته مرتفعة جداً بحيث لا يستطيعون شراءه، ولا ينبغي أن تکون الفتوى لمن يقيمون في بلاد إسلامية –على فرض التشدد فيها- کالفتوى لمن يقيمون في بلاد غير إسلامية؛ لأن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمکان والأحوال کما هو معروف.
5- لا يعني حکمنا بطهارة الأطعمة التي تخالط النجاسات المغلوبة أو المستحيلة أن يتهاون المسلمون في شأنها، بل يندب لکل مسلم أن يتحرى لدينه، وأن يحتاط لنفسه، فلا يُقْدِم على تناول ما فيه شک أو شبهة إلا حيث ضاقت به السبل؛ لأن الخروج من الخلاف مستحب.
6- رأينا کيف کان رأي شيخ الإسلام ابن تيمية هو أوسع الآراء في مسألة الأطعمة –على خلاف ما هو مشهور عنه- ولعل السبب في ذلک من وجهة نظر الباحث: هو رفضه للتقليد، ومحاولته فهم الآيات والنصوص في ضوء مقاصد الشارع وحِکَم التشريع، دون تقيد بآراء الفقهاء الذين سبقوه، وهو ما أتاح له فرصة معارضتهم بحجج قوية وأدلة معتبرة.
7- منهج فهم الدليل، ومراعاة المقاصد والحِکَم، والبعد عن التقليد المذموم، هو المنهج الذي ينبغي أن يُتَّبَع في دراساتنا الفقهية، وهو المنهج الکفيل بحل کثير من مشکلاتنا في هذا العصر.
8- أقترح أن يکون الضرر هو محور الدراسات الشرعية في باب الأطعمة؛ بحيث تحاول هذه الدراسات أن تُثبِت أن الضرر هو السبب الأصلي للخبث، وإذا ثبت ذلک أمکننا أن نرکز في دراساتنا المستقبلية على وضع مقياسٍ دقيقٍ للضرر، نستطيع من خلاله الحکم على الأشياء في باب الأطعمة بسهولة ويسر.
([1]) قال الإمام الکاساني: "... أما الذي يعيش في البحر: فجميع ما في البحر من الحيوان محرَّم الأکل؛ إلا السمک خاصة؛ فإنه يحل أکله، إلا ما طفا منه، وهذا قول أصحابنا -رضي الله عنهم-"
واستدل له الإمام الزيلعي بقوله: "لنا: قوله تعالى "ويحرم عليهم الخبائث" [الأعراف: 157]، وما سوى السمک خبيث" فاعتبر ما سوى السمک من الخبائث.
- بدائع الصنائع ج5/ص35، تبيين الحقائق ج5/ص296، وينظر: الهداية مع العناية وفتح القدير ج9/ص502.