فلما کان التعريض نصف اللغة ؛ لأنه قسيم التصريح ولا ثالث لهما . وکان دلالة فحوى تتبع العبارة وتفهم من السياق المقالى السابق واللاحق – أو من أحدهما – بمعونة قرائن الأحوال , ودلالة المقام ، ولما کان لکل مقام مقال , فقد يکون لکل مقام دلالة تعريضية يقصدها المتکلم .
ولما کان التعريض أسلوب الأذکياء , والدهاة من المتکلمين والمخاطبين , ولذلک أکثر منه الشعراء المفلقون ، والناثرون من الکتاب والخطباء المبرّزين .
ولما کان التعريض دلالة إيمائية منتقبة محتجبة خلف غلالة رقيقة شفافة . تغرى المخاطب بالتفکير لفهمها وإدراک معناها .
ولکل ذلک فإن التعريض يجذب الباحث لتتبعه , وتقصى مظانه من کلام الفحول المطبوعين ، والأفذاذ المجيدين من شعراء العربية فى عصورها الزاهرة .
ولما کان المتنبى قد ملأ الدنيا وشغل الناس –وقد شغلت بشعره الألسن, وسهرت فى قراءته الأعين وفى فهمه العقول ، کما قال هو عن شعره فصدق :
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخق جراها ويختصموا
ولذلک کثر الناسخ لشعره ، والغائص فى بحره والمفتش عن درره ومرجانه ، وکثر شراح دبوانه , والمتتبعون لأشعاره عن اى شاعر عربي آخر، حتى عدد البديعى أکثر من أربعين شرحا وکتابا عنه([1])
وتفرغ قوم لشرح مشکله وغربيه وعويصه وتعقيده, کما تعرض البعض لتعريضه من خلال
حديثهم عن المدح الموجّه الذى يحتمل الذم والهجاء فى قصائده الکافوريات .
لکل ذلک رأيت أن أکتب عن التعريض فى شعر المتنبى , ولکنى بمراجعة ما أتيح لى من شروح ديوانه , عند الواحدى , والعکبرى , والبرقوقى , وشرح مشکل شعر المتنبى لابن سيده وغيرها.
وجدت تعريضه فى کل الديوان کثيراً جداً ؛ فقصرت اهتمامى على قصائده المصريات , لشهرة تعريضه فيها بکافور , فلما جمعت تعريضه فيها وشروحه وجدت ذلک لا ينهض به إلا کتاب کبير الحجم .
ولذلک آثرت أن أقتصر على قصائده الکافوريات – بمفهوم وتحديد سيأتى بيانه – حتى يتثنى لى نشرها فى مقال بمجلةکلية اللغة العربية .
واخترت هذه القصائد لأنها أثرى قصائد ديوانه بالتعريض , باتفاق النقاد القدامى والمحدثين . وأسال الله السداد والتوفيق –آمين -
د / عبد العزيز عبد السلام محمد عبد الرحمن مخلوف
مدرس البلاغة والنقد
بکلية اللغة العربية بأسيوط