يدور هذا البحث في فلك البحوث الصرفية التي تتخذُ من الأبنية الصرفية موضوعًا لها ، فقد تحدَّثَ علماء اللغة في كُتُبِهم بدءًا من سيبويه على أبنية الأسماء والأفعال والمصادر، مُفَصِّلين القول فيها وفي عددها و النادرِ منها والشائع، وقد جاء إسحاق بن إبراهيم الفارابي (ت350هـ) فوضع أولَ مُعْجَمٍ مُرَتَّبٍ بحسبِ الأبنية الصرفية ، فوضع فيه الكثير من مفردات اللغةِ (أسماءٍ وأفعالٍ ومصادرَ) ورصدها تحت أبنيتها الصَّرفية بنظام مُعَقَّدٍ مُحْكَمٍ، ولكنَّه لم يأتِ على جميع أبنية اللغة، فتركَ أكثَرَ مما جمعَ، وجاء بعدَهُ كثيرٌ من علماءِ اللغة فأَلَّفُوا في الأبنية وأنواعها وأعدادها، ولكن ابنَ القطَّاع الصقلي(ت 515هـ) ألَّفَ كِتابًا في الأبنية، وذكرَ في خُطْبَتِهِ أنَّه لم يجدْ من اللغويين من أحصى عدد الأبنية، فأرادَ أن يأتي على جُمْلَتِها، وأن يذكرَ ما تركهُ السابقون من اللغويين، فَنَقَّرَ ومَحَّصَ وجمعَ، ووصل عددُ الأبنية عند نحو خمسمائة وألف بناء للأسماء والأفعال والمصادر - علي حدِّ قوله، وهو عددٌ كبيرٌ مقارنة بالفارابي الذي لم تتجاوز عدد أبنيته أربعمائة بناء.
وقد وزانَ الباحثُ بين أبنية ابن القطَّاع وأبنية الفارابي، مُحاولًا البحثَ عن أسباب هذه الزيادة الهائلة ، وتوصَّلَ إلى عددٍ من الأسباب؛ منها ما يتعلقُ بالمنهجِ الذي اتَّبعهُ كلا العالمين ، ومنها ما يتعلق باستخدام ابن القطَّاع لرؤيته الخاصَّة في مسائل صرفية مخالفًا جمهور اللغويين ، فقد توسَّعَ في استخدام لغاتِ العربِ المختلفة في الكلمة الواحدة ممثلًا لكلِّ لغة ببناءٍ خاصٍّ بها، وكذلك توسَّعَ في استخدام الكلمات الأعجمية، وأدخلها إلى الأبنية العربية بالمخالفة لقواعدِ التعريبِ، وكذلك فقد كانت له رؤيته الخاصَّة في استخدام مواضع حروف الزيادة داخل الكلمة فَوَلَّدَ أبنية غريبة مثل (فَعَلوس، وفِئْعلان، وفَعَلُوفٍ...إلخ)، ولم يتوقف ابن القطَّاع عند هذا الحد، فواصلَ تعدِّيِهِ على الثوابت الصَّرفية، فوضع تعريفاتٍ للاسم الثنائي، والثلاثي، والرباعي، والخماسي ؛ بغرضِ خدمةِ غرضِهِ في الإكثار من عدد الأبنية.
وقد رصدَ الباحثُ هذه الأسباب، وحاول نقدَها في ضوءِ الجهودِ اللغوية ، المتمثِّلَةِ في مؤلفات اللغويين القدامى والمُحْدَثين، ليكون النقدُ مبْنيًّا على أُسسٍ علميَّةٍ، والله المُوَفِّقُ والمُسْتَعانُ...