اعتمدت الحياة السياسية الديمقراطية منذ عام 2003 على مخرجات تنمية وتعزيز الولاءات والانتماءات للهويات الفرعية التي مازالت تشهد انعداماً للاستقرار على مختلف المستويات، مع الأخذ بالحسبان نموذج الانکفاء على الذات وضمن بيئتها الفرعية ومن ثم تصدّعها على مستوى المنتميات الاجتماعية الفرعية ؛ سبب انشغالها المستمر في بناء السلطة على حساب بناء الدولة - الأمة، أما المخرجات الثانوية الطارئة على هذا المشهد السياسي فقد تمثلت في انفتاح جميع تلک المنتميات الاجتماعية سواء القديمة أم الحديثة ضمن حراک غير مسبوق يميل إلى بناء بُنى منظومات سياسية واجتماعية بديلة، والذي تمثل في تطابق الهويات الثلاث وولاءاتها (الدولة، الحزب، وشخصنة السلطة) ضمن ما يعرف بإنتاج هوية فرعية ثانوية تکون العلوية والفوقية للانتماء والولاء لتلک المفاهيم الثلاثية (الدولة، الحزب، والسلطة)، مما عرقل انتاج هوية وطنية شاملة تمثل العراق وتعبر عنه القوى السياسية والمجتمعية الحقيقية المشارکة في العملية السياسية الديمقراطية الناشئة . أما استخدام الطبقة السياسية الحاکمة لمنطق القوة في فرض قيم غير مسبوقة على المشهد السياسي فقد جعل البيئة المجتمعية بأکملها تستند إلى رؤية أحادية تحاول من خلالها أن تفرض نفسها من أجل الخروج عن أنماط ثقافة الهوية الوطنية لصالح ثقافة الهوية السياسية التجزيئية التي سادت في مرحلة ما على وفق الاعتبارات القومية، المذهبية، والاثنية وما سواها، مما انتج بالمحصلة النهائية توجهاً من نوع آخر يروم إلى بناء مشترکات وطنية جامعة لمختلف الأطراف والقوى السياسية والاجتماعية وعابرة للقوميات، ليکون مؤشراً للتوجه نحو الابتعاد عن مشهدي التصارع والتنافس حيال الانتماءات والولاءات الاجتماعية الفرعية التي کانت عِرضة للإنهاک المتبادل مع استنزاف قوتها في مرحلة الأزمات . من هنا يمکننا القول بأن واقع تلک المجتمعات السياسية بات عِرضة لتحولات دراماتيکية وشيکة يجعل من هوياتها الفرعية غير قادرة على الاستمرار لوحدها من دون مساعدة بقية الهويات الأخرى المتلاحمة معها في ظروف المحنة والمشکلات التي عان منها المجتمع العراقي کثيراً منذ عام 2003، وما رافق ذلک من تعرّض غير مسبوق لمحنة الاحتلال الأمريکي ومخرجاته التي انتجت تدميراً ممنهجاً في البُنى التحتية جميعاً، فضلاً عن تعرّض مؤسسات الدولة لمحنة مُضافة من جرّاء البدء بعملية إعادة بناء الدولة من جديد ؛ ولکن بشکل فوقي من دون الاهتمام بترکة الماضي التي أثرت بشکل کبير في بُنية المجتمع وتکويناته الفرعية على مدى أکثر من ثلاث عقود سبقت عام 2003، وبين هذا وذاک تحديات عدة باتت تهدد عناوين الهويات الفرعية القومية والدينية والطائفية بالتشظي کما حصل فـي مرحلـة مقدمات الحرب الداخلية التي بدأت دول وأطراف خارجية تغذيها بدوافع مذهبية وقومية وما سواها بعد عام 2006 . مع الأخذ بالحسبان دور القوى السياسـية بمختلـف اتجاهاتها على إضعاف الهوية الوطنية طالما أن الطبقة السياسية الحاکمة باتت منشغلة بتقاسم السلطة على وفق انتماءاتها و ولاءاتها الحزبية الضيقة مما زادت من تصدّع الهوية المجتمعية بالکامل، بمعنى أن الهوية الوطنية العراقية لم تنبع من ذات الفرد بشکل تلقائي وإنما مارست الدولة ونخبها السياسية المؤدلجة دوراً ملحوظاً في القيام بعمليتي دمج وصهر شديدين لجميع مکونات الشعب العراقي على اختلاف أطيافه الأثنية والدينية والمذهبية وما سواها، لنکون أمام هويات هي الأقرب لمشهد الصراع من منظور الهويات الصغيرة التي تمثلها والکامن خلفها صراعات کبرى من نوع آخر تروم إدارته بشکل يرمي إلى تغييب آليات العدالة الاجتماعية والسياسية في ممارسة الحکم الديمقراطي الجديد، ناهيک عن محاولات اصطناع الحواجز النفسية التي من شأنها أن تعزل الفرد أو الجماعة وحتى النظام نفسه على أساس الانتماء للهوية الفرعية حصراً، ليبدأ الولاء التضامني داخل الهويات الفرعية نفسها ليکون منحصراً ضمن أبنية وأطر القبيلة، المذهب، والقومية وما سواها من انتماءات فرعية التي من شأنها أن تعزز الهوية الثانوية على حساب الهوية الوطنية الأم . فکلما زادت حالة انغلاق الهويات الفرعية على نفسها کلما بات المجتمع مهيأ للضعف والهشاشة من الداخل والعکس هو الصحيح، طالما أن المجتمعات تشهد حالة من الخوف والقلق الشديدين حيال الظواهر السلطوية الجديدة التي تحمل إيديولوجية التيارات الصاعدة إلى السلطة (سواء أکانت تحت ما يعرف بالإسلام السياسي أو ما سواه من تيارات سياسية على سبيل المثال لا الحصر) .
أما طبيعة الإشکالية التي تواجه عملية بناء الدولة – الأمة فتکمن في بناء مؤسسات قادرة على اجتذاب الهويات الفرعية العراقية، من أجل بث الحيوية والقوة للهوية الوطنية الأم في الدولة الديمقراطية الجديدة، لا سيما عقب التحولات السياسية التي شهدها المجتمع السياسي العراقي منذ عام 2003، بمعنى أن العجز المؤسساتي في تلبية متطلبات وحاجات المجتمع کافة من شأنه أن يُضعف الشعور بالانتماء للدولة، ومن ثم فأن عملية بناء الدولة – الأمة قد يوشک أن يُحدِث خللاً وظيفياً في بناء الهوية الوطنية الجامعة لکل الهويات، لا سيما وأن حالة انعدام قدرة النظام على التغلغل في المجتمع واستيعاب مکوناته بفعل مؤسسي يجعلها عِرضة أيضاً لحدوث شرخ في هذه الهوية الجامعة، عندئذ فأن الحالة الأخيرة إذا ما حدثت فستؤشر عجز منظومة النظام السياسي وسلطته الحاکمة عن بناء تلک الهوية الوطنية الجامعة المعبِّرة عن الجميع، لنشهد نزوعاً غير مسبوق نحو الهويات الفرعية مما يجعل الولاء موزعاً بين هويات عدة وليس للدولة حصراً .
ومن ناحية أخرى، تبقى عملية تعزيز الهوية الوطنية على حساب الهويات الفرعية من المهام الرئيسة التي يجب العمل عليها من خلال تجاوز محنة الماضي القريب التي انتجت توافقية وتقاسم للسلطة بشکل يغذي الولاءات والانتماءات الفرعية للهوية بعد عام 2003، والتي احدثت بالمحصلة النهائية تنافساً منقطع النظير للسلطة وعلى حساب طموح الکثير من الإرادات الوطنية المتقاطعة مع إرادات فواعل الطبقة السياسية الحاکمة نفسها، والذي أنعکس على طبيعة الحراک السياسي الحاصل فيها، ليکون مؤطر في تشکيل حکومات تحت عناوين عدة (حکومة الوحدة الوطنية، حکومة الشراکة، حکومة المشارکة، وما سواها من توصيفات جديدة طارئة على المشهد السياسي العراقي)، وبين هذا وذاک وجود رغبة حقيقية يقودها الحراک الشعبي الحاصل منذ عام 2011 من أجل إخراج نموذج السلطة من نمطية الدوائر الحزبية والمصلحية والانتماءات الضيقة التي اتکأت على مفهوم المکونات وليس المواطنة، وصولاً إلى صيرورة بيئة سياسية - مجتمعية متناغمة مع وحدة المجتمع . من هنا وجدنا أن حجم الضغط الشعبي الراهن قد بدأت صيرورته في موجات متتالية من الحراک الجماهيري وصولاً إلى الموجة الأخيرة التي انطلقت في الأول والخامس والعشرين من تشرين الأول عام 2019، مع الأخذ بالحسبان محاولات البعض في جعل سمة العنف من السمات الأبرز في التعبير عن مطالب المجتمع العراقي في ظل الصراعات الداخلية والخارجية التي تجري من أجل فرض رؤية أحادية على واقعه الذي بدأ يرفض هذه المعادلة، مما يحتم الاعتماد على أدوات الضبط السياسي والاجتماعي لتحديد أبعاد مدرکات البيئة المجتمعية من خلال فرض سياق محدد من النظم والقيم والتقاليد التي تروم إلى تبادل الأدوار على أن يکون المسعى موجه نحو تحقيق التماسک الاجتماعي من منطلق تمکين الهوية الوطنية من خلال إرساء أسس التسامح وقبول الآخر ؛ لأن الأخيرة باتت من الفرص المُتاحة لتحقيق التضامن الداخلي الذي يحتضن کل الوقائع والأحداث السياسية والمجتمعية وصولاً إلى ما يعرف بالانسجام الداخلي ضمن الوسط الاجتماعي، وبخلافه يعني نفي الخصوصيات التي لا تقودنا إلاّ نحو التمسک بالهويات المجتمعية الفرعية، لتأتي في المحصلة النهائية قضية نشر مفاهيم السلم والتسامح والمرونة مع الجميع کونها وسائل ضامنة لتحقيق المطالب والحفاظ على السلم المجتمعي خلال المرحلة القادمة .