عند رصد حرکة السرد في الحضارة العربية الإسلامية تبرز مرحلتان مر بهما إلى نهاية القرن الرابع الهجري، أولاهما: عصر التدوين الذي مال إلى الأنواع السردية الخبرية وإن تنوعت مصطلحاتها، فجمعت الأخبار، والسير، والأيام، والفضائل والرذائل، وقصص الأمثال، وقصص القرآن الکريم... بل تقدمت الأخبار على الشعر في أولية التدوين، کما تقدمت في کم التأليف، وقد يکون التدوين من عوامل تراجع مکانة الشعر، وإن کان هذا التراجع ابتدأ مع أواخر الجاهلية، نخلص من هذا أن الأنواع السردية الخبرية کانت لها مکانة فاقت بقية أنواع السرد، وناجزت الشعر في هذه المرحلة، أما المرحلة الثانية: مرحلة الأبداع التي اعتقد الدارسون أنها تتأخر إلى القرن الرابع الهجري، ولکن البحث يثبت بالتواريخ الدقيقة أن هذه المرحلة ابتدأت منذ أواخر القرن الثاني الهجري، ولعل أول ما برز من أنواع الإبداع السردي الحکايات الخرافية على ألسن الحيوانات، إذ ظهر أبرز کتابها الذين کتبوا هذه الحکايات للخليفة هارون الرشيد وحاشيته، کما أبدعت المقامات وإن تأخرت إلى نهاية القرن الرابع، إلا أن إرهاصاتها تعود إلى أوائل الثالث، وکتبت القصص الشعرية سواء قصص الجن، أو الحکايات على ألسن الحيوان، ونظم سير الملوک، والتاريخ، وابتدأت هذه الحرکة منذ أواخر القرن الثاني الهجري، کما ظهر الميل عن الخبر المتصف بالصدق والسند الثابت الصحيح إلى الخبر الغريب العجائبي حتى أصبح المحبب المطلوب عند المتلقي، کان هذا في النصف الأول للقرن الثالث الهجري، برز تدوين وإبداع النوادر والمضحکات منذ أواخر القرن الثاني فکثرت الکتب فيها، حتى فضلت أحيانا على جيد الشعر، کما کثر التأليف في قصص المنادمة والندماء والمغنين والقيان والشعراء وقصص العشق، کل هذا يظهر تحولا کبيرا في ذائقة المتلقي العربي من السرد الخبري التوثيقي إلى الأنواع السردية القريبة من الخرافة والمشبعة بالغريب والعجيب، مع برز السرد المضحک، والمثير.