يحاول هذا البحث إلقاء الضوء على إشکالية مفهوم الثقة والإسهامات السوسيولوجية في دراستها من خلال تأصيل المفهوم وبعض الإسهامات النظرية التي يمکن التوصل من خلالها إلى عدة استخلاصات تسهم في فهم قضية الثقة ووضعها في إطار يمکن الإفادة منه إمبريقيًا ومنهجيًا، وذلک فيما يلي :
عکف الباحث - في ضوء ما تقدم - على تحديد مفهوم الثقة وکيفية استثمارها، سواءً على المستوى الشخصي الذي يمثل الخطوة الأولى لانعقاد التواصل مع الآخرين، مرورًا بالمستوى الاجتماعي الأوسع نطاقًا.
فهناک شکلين أساسيين لعلاقات الثقة في أي مجتمع؛ هما الثقة التقليدية والثقة الحديثة، أما التقليدية فمنبعها المجتمع التقليدي القائم على الثقة فيمن نعرف فقط کـ (الأسرة – الأقارب - الأصدقاء- الجيران) وتقوم في نفس الوقت على الحذر في معاملة الغرباء المختلفين أو معاملتهم بإستراتيجية المعاملة بالمثل. وأما الحديثة فتعمل على کسر الحواجز بين الأشخاص المختلفين داخل إطار قانوني غير حکومي يفتح المجال أمام الجميع للتعامل وفقًا لمبادئ تنهض أساسًا على الثقة المتبادلة، بين أناس مختلفين ثقافيًا عرقيًا ودينيًا، کالأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية والمنظمات الحقوقية.
کما تمثل الثقة إحدى الرکائز التي تجمع بين الناس في کافة التعاملات التي تحدث بينهم، إلا إنه مع تطور المجتمع وتعقده وکثرة مخاطره أصبحت الثقة في حالة متردية، لأن غالبية العلاقات التي تجمع بين الناس أصبحت علاقات مصالح مادية بحته لذا أضحت الثقة عاملاً حيويًا لاستمرارية هذا المجتمع واستقامة العلاقات داخله.
تشير الإسهامات النظرية السابقة في مجملها إلى أهمية تکوين الجماعات المتميزة عن الأسرة، دون تدخل حکومي سافر يفقد هذه الجماعات مدنيتها، کما أن المجتمعات تقسم حسب أشکال الثقة السائدة، فعندما تنعدم الثقة بين الأفراد وقرنائهم الأفراد (النطاقات الصغيرة للثقة)، وبين الأفراد ومؤسسات الدولة فتلک هي المجتمعات منعدمة الثقة. أما عندما تسود العصبية القبلية وتتحکم العائلة في کافة العلاقات الفردية والجماعية ويتوقف مستوى الثقة وشکلها على حسب رؤية العائلة أو القبيلة (الشبکات التقليدية للثقة) فهذه هي المجتمعات الأبوية "العائلية"، ويسود هذا الشکل في غالبية قطاعات صعيد مصر وما يتصف به من طابع قبلي عائلي. أما عندما يتواصل الأفراد ويسعون إلى ذلک وتنتشر المؤسسات التطوعية التي تتجاوز حدود العائلة والأسرة، تنشأ الثقة وتتشکل في أوسع نطاقاتها (الشبکات الحديثة للثقة) وتلک هي سمات المجتمعات ذات الثقة العالية.
کما ترتبط الثقة السياسية بطبيعة الثقافة السياسية ومستوى الثقة في مؤسسات الدولة، وتؤدي الدور المحفز في بناء شرعية النظام والدولة، والوظيفة الرئيسة للثقة السياسية هي تقريب وتجسير الفجوة الواقعة بين الحاکم والمحکوم، وتوطيد العلاقة بين الدولة والمجتمع.