عرَّف الفلاسفة الإنسان بأنه "کائن تاريخي" بمعنى أنه من بين سائر الکائنات جميعاً الذي يصنع تاريخه، وهو الکائن الوحيد الذي لديه وعي بالزمان. وإذا کان من الصحيح أن الکائنات الأخرى لها "تاريخ"، فإنه من الصحيح ـ أيضاًـ أنها لا تعي زمانها ولا تاريخها الطبيعي؛ فالإنسان وحده هو صاحب التاريخ البشرى وصانعه عن جدارة، لذلک فهو القادر على فهم جدل الزمان والتاريخ. وإذا کان الله ـ تعالى ـ هو خالق الطبيعة، فالإنسان هو صانع "التاريخ"؛ أي صانع تنظيماته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، کما هو صانع فنه وقانونه ولغته. إذن "التاريخ" إبداع إنساني خالص، بمعنى أن صانع "التاريخ" هو ذاته موضوع "التاريخ"، بحيث يمکن القول إن صنع الإنسان للتاريخ من أوضح وأهم الأفکار التي عُنى بها المفکرون والفلاسفة على مر العصور.
والبحث الذي نعرض له يتناول فهم الإنسان لذاته ووعيه بالواقع التاريخي الذي يحيا من خلاله. وقد تحدثنا في إطار ذلک عن بداية الوعي بـ "التاريخ" في الحضارات القديمة مثل : "الحضارة المصرية" و "الحضارة الصينية" و"الحضارة الهندية" ثم "الحضارة اليونانية". کما تناولنا بالعرض المفهوم الديني لــ"التاريخ" في الديانة اليهودية، فضلاً عن أننا تناولنا بالعرض اللاهوت المسيحي؛ وتحدثنا أيضاً عن الکتابة التاريخية في الدولة الإسلامية عبر العصور والتي شملت مناحي الحياة المختلفة. وتعرضنا لمفهوم"الوعي التاريخي في العصر الحديث"، حيث عالج علماء "التاريخ" في الغرب الطفرة التي حدثت في الدراسات التاريخية، ورجعوا ـ بهذه الطفرة ـ إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر الذي وضع المناهج المتميزة للمعرفة التاريخية، وأحدث نوعاً من الثورة الکوبرنيقية أدت إلى تقديم علم "التاريخ" في صورة جديدة .